للعطاء لذة شهيّة لا يتذوقها إلا المعطون، فمن يعطي أكثر، الفقراء أم الأغنياء؟
أكثر من دراسة وتجربة اجتماعيّة – غربيّة – خلاصتها أن الفقراء يعطون أكثر ويتبرعون من أموالهم بسخاوة أكبر! ألهذا هم من أهل الجنة أم هو فقط تعاطف منهم وإحساس بحرارة الجمرة التي يدوسونها، جمرة الفقر، فيرغبون أن يحموا غيرهم من حرارتها؟
عنه (صلى الله عليه وآله): “اطلعتُ في الجنة فرأيتُ أكثر أهلها الفقراء”. ولما سأله أبو ذر: الخائفونَ الخاشعونَ المتواضعون الذاكرون الله كثيرا يسبقون الناس إلى الجنة؟ قال: “لا، ولكن فقراء المؤمنين يأتون فيتخطونَ رقاب النّاس”.
أترك البحث عن هذه الدراسات للقارئ العزيز، وأذكر ثلاث حوادث عن العطاء من القرآن الكريم. قبل ذلك – من عندي – ابتدع معادلةً رياضيّة لقياس نسبة الكرم ثمّ نرى من الأكرم على الإطلاق ونزل في حقه قرآن:
نسبة الكرم = مقدار العطاء / الباقي من مال
يصف القرآن ثروة قارون فيقول: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ}، مال كثير ووفير من الذهب والفضة، يصعب حمل صناديقها على الرجال الأشدّاء أولي القوة، لكن سيرة قارون العاطلة ونهايته المأساوية – تجدونها مفصلة في القرآن الكريم – تذكر أن نسبة عطاء قارون تساوي صفرًا!
ثعلبة بن حاطب كان رجلًا فقيرًا يختلف إلى المسجد دائمًا، وكان يصر على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو له بأن يرزقه الله مالًا وفيرًا، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): “قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه” أوليس الأولى لك أن تتأسى بنبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحيا حياةً بسيطةً وتقنع بها؟ لم يكفّ ثعلبة ولم يصرف النظر عن أمله، وأخيرًا قال للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم): والذي بعثك بالحقّ نبيا، لئن رزقني الله لأعطينّ كلّ الحقوق وأؤدي كلّ الواجبات، فدعا له النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم). فلم يمض زمان، حتى توفي ابن عمٍّ له، وكان غنيًا جدًّا، فوصلت إليه ثروة عظيمة، وقيلَ إنه اشترى غنمًا توالدت حتى أصبح رعايتها في المدينة أمرًا غير ممكن.
خرج ثعلبة إلى أطراف المدينة، فألهتهُ أمواله عن حضور الجماعة، والجمعة. وبعد مدة أرسل النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) عاملًا إلى ثعلبة ليأخذ الزكاة منه، غير أن ثعلبة اعترضَ على حكم الزكاة وقال: إن حكم الزكاةِ كالجِزية، أسلمنا حتى لا نؤدي الجزية، فإذا وجبت علينا الزكاة فأيّ فرقٍ بيننا وبين غير المسلمين؟!
بلغ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ما قاله ثعلبة فقال: “يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة”، فنزلت فيه الآيات المعروفة! إذن نسبة عطاء ثعلبة تساوي صفرا!
ثالثة الحكايات شافية، نسبة العطاء فيها 100% لعائلةٍ بأكملها في ثلاث مرات:
قال ابن عباس: إن الحسن والحسين مرضا فعادهمَا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ناسٍ معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرتَ على ولديك، فنذر عليّ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام (طبقًا لبعض الروايات أن الحسن والحسين أيضًا قالا نحن كذلك ننذر أن نصوم) فشفيَا وما كان معهم شيء، فاستقرض عليّ (عليه السلام) ثلاثة أصوع من شعير فطَحنت فاطمةُ صاعًا واختَبزته، فوضعوا الأرغفةَ بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل، وقال: السلام عليكم، أهل بيت محمد، مسكينٌ من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه وباتوا لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صياما.
فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم فآثروه (وباتوا مرةً أخرى لم يذوقوا إلا الماء وأصبحوا صيامًا) ووقف عليهم أسير في الثالثة عند الغروب، ففعلوا مثل ذلك. فلما أصبحوا أخذ عليّ بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: “ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم” فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق بطنها بظهرها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: خذها يا محمد هنّأك الله في أهلِ بيتك فأقرأه السورة، أي سورة الناس.