صناعة الوعي في وصية أمير المؤمنين (ع)

ورد عن أمير المؤمنين (ع): “يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة” (تحف العقول ص 171).

التخطيط المعرفي لكل ما يصدر منا من كلمة أو سلوك فيه دلالة على ما نمتلكه من وعي وفهم لخطى الإنجاز والنجاح والتقدم، إذ إن الخطوات العبثية والعشوائية لا ترتجى منها النتائج والثمار الجيدة بخلاف ما تجره من خسائر وتقهقر في مسيرة الفرد، وهذا الإعداد والتجهيز والدراسة الدقيقة تجنبنا الوقوع في الكثير من الأخطاء وتضييع الجهود والأوقات، ونحتاج لهذا التخطيط في كل جوانب حياتنا ولا يقتصر على جانب معين، فعلى مستوى الدراسة ينبغي إعداد جدول للمذاكرة وحل الواجبات والتحضير المسبق، وعند التفكير في تكوين علاقة زوجية فلا بد من وضع مجموعة من الأسس التي يرتكز عليها الاختيار المناسب تجنبًا لوقوع المشكلات الناجمة عن الاختلاف الفكري والسلوكي وغيره.

ما أعظمه من توجيه نحتاجه بشدة في ترتيب أوراق حياتنا وعرى علاقاتنا بالآخرين فيوصلنا إلى أفضل النتائج، فالحكمة في التفكير والتأني في اتخاذ القرار هو من ثمار هذا التوجيه حيث تكون عين البصيرة على الاحتمالات والمآلات والعواقب المترتبة على أي خطوة نقدم عليها، ولننظر إلى حجم المشكلات التي تخرب علاقاتنا عندما نقرر قرارًا ونحن في حالة انفعال شديد بعد حوار ساخن أو نكون واقعين تحت ضغط نفسي بسبب مشاغل الحياة والمشكلات التي نمر بها، بالتأكيد سيكون القرار متسرعًا ويتصف بالتهور والاندفاع دون الأخذ في الحسبان النتائج المترتبة عليه، والقوة الغضبية عندما تتحكم بالمرء يغيب العقل الرشيد ويخرج حينئذ عن اتزانه العقلي والنفسي ولا يعي ما يفعله، بل ويرتكب من الأفعال وينطق بكلمات قاسية يحيق به الندم الشديد عليها، وفي اللحظات الصعبة التي نقع فيها تحت نير الصدمة العاطفية والإحساس بتجاهل من نهتم به كثيرًا أو توجيه إساءة لنا تجرح أحاسيسنا تمثل كذلك منعطفًا خطيرًا، إنه العمق الداخلي الملتهب للإنسان الذي يتأثر بما حوله ولا يستقر على حالة واحدة بل هو وليد اللحظة الراهنة وما قبلها دون إدراك لما يعقبها.

ومن علامات الشخصية الناجحة ضبط النفس والمحافظة على الهدوء والاتزان لنفسي والعاطفي؛ تلافيًا لوقوع المحذور في اللحظات والخطوات الآتية إذا كان الإنسان خارج نطاق الحكمة والنظرة المتأنية والحذرة وتحمل مسؤولية ما نقدم عليه.

البصيرة تعني وضوح الصورة للخطوات المستقبلية والكلمات المتحدث بها، وهذا يعني الالتفات إلى أين يضع المرء قدمه في أرض ملأى بالعثرات والحفر، فيضع في حسبانه الاحتمالات الواردة لخطوته والنقاط الإيجابية والسلبية والموازنة بينها، ولذا نجد أنفسنا معجبين بتلك الشخصيات المسترسلة في كلامها والمستعرضة لفكرتها بأسلوب مفهوم وطريقة تقديم تجلب الانجذاب لاستماعها والتفاعل معها، وفي الحقيقة فمثل هؤلاء يحملون وعيًا بأهمية تكامل شخصياتهم وتنمية قدراتهم، وطريفة التفكير الناضجة عندهم تجعلهم يفكرون أكثر من مرة قبل النطق بالكلمة أو اتخاذ الموقف والقرار بعد النظر في النتائج المترتبة عليه، وبما يجنبهم ارتكاب الأخطاء أو الإساءة للآخرين أو توتر علاقاتهم.

الخطوة الواثقة والكلمة المسؤولة والموقف المناسب وإعداد الحسابات بين الربح والخسارة لكل ما يقدم عليه، يبنى على طريقة تفكير الإنسان ومدى اهتمامه بالألق والسمو في عالم إثبات الذات واستقرار علاقاته، وإلا فإن هناك من لا يبالي بالنتائج المترتبة على ما يصدر منه وما يلحقه به من خسائر، فمتى ما استفزت مشاعره تحرك بتهور فينطق بما يندم عليه كثيرًا ويسقطه من عيون الآخرين.

والوقوع في الخطأ والتعثر وجريان الرياح بما لا يتوقعه أمر وارد ولا مفر منه، ولكن المهم أن يعيد مراجعة خطواته ويحاسب نفسه ويدرس الخطوات الصادرة منه ويضع إصبعه على مواضع الخطأ، ويبدأ مجددًا بعد الاستفادة من التجارب التي مر بها فهي تمثل ومضات تنير طريقه نحو المستقبل، فالخبرات المتراكمة جزء من الرصيد الفكري للإنسان يوظفه في المراحل القادمة.

ليس هناك من كبير على التعلم والبحث المعرفي بل هو في كل يوم عليه أن يحوله إلى محطة تعليمية يروي بها ظمأه واحتياجه لإنارة عقله، فالإدراكات العقلية هي رأس مال الإنسان في الحياة والثروة الحقيقية، فدروب الحياة الشائكة والمظلمة لا يستدل فيها المرء على دربه إلا بقبس المعارف.



error: المحتوي محمي