السماحة.. بين خفة الروح، ونعومة الممدوح .. حدث وحديث “32”

يَتَباهَى أَسمى “خُلقِ وأَلقِ” خَلّة السَّمَاحَةِ الذاتية، بفَائق فَيضِ أريحيةِ القَبول؛ ويَختالان برَائقِ نُبلِ أصالةِ الاستِجوَاد؛ ويعتزّان بندَى ذائقة الاستِحسان، لدَى شريحةٍ واسعةٍ مِن الشخُوص، الكُرماء الطيبين، على اختلاف أَديانِهم، وتعدّد مِللِهم، وتباين نِحلِهم، أينما حلّوا، وحَيثما ارتحلوا… ومِمّا يَزيد ذُروة سَنا بريق إشراقة السماحة الوضّاح مَقامًا مُبجّلًا؛ ويُجِلّ مَدّ عَظيم تجذّرها الأَصِيل، في نفوس وأَفئدة مَن يَحِلّ شَذا مِسكها الطيب النافذ، دَمَاثةً ولَطَافةً، في مُتّسع عُقرِ صَعيد واديهم المُزهر؛ ويتغَلغَل رَيع أثرِها المُمارَس “سماحة” في عُمق لُحْمة شَائع سُلوكِهم المَحمود؛ ويتّخذوها، أسلوبًا مَاثلا في ظِلّ فَسَاحة مَيدان تعامُلِهم المشهود، مَع خِيار ثُلّة الشخوص المُحترمَة القائمة مِن حَولهم؛ ومَع أندادهم مَن صَفّ الغُرباء، على حَدٍ سَواءِ، دُون ظاهِر تصنّعٍ، أو سَابِق تزلّفٍ، أَو إِبداء أدنى تملّقٍ… وعلى امتدادِ صفحة البِساط الأَبيض الناصِع، لنقاء خَلّة السماحة الجامِعة البِكر، تَتآلف مَودّة النفوس؛ وتَتحالَف صَفاء أُلفة القلوب، ويَفوحُ عِطر أقاحِي جَوهَر السريرَة الأَرِج؛ ويَندَى مُخضلًا بَوح بِطانة الوِجدان… فَما أَسمى وَجَاهة المَقام، وأجلّ سِيرة، وأجملَ مَسيرة “سَماحَة” رِقّة الإنسان، في مَعْرِضِ فَصيح الكلام، ومساعي نهج الكرام، النابعة أصالة، مِن صَميمِ دَخِيلةِ الوجدان …!

وهُنالِك، تَتجلّى بوُضوحٍ، وتَتمتَّه بشُموخٍ، أَسمى مَناقِب، وأَجلّ مَحامِد السماحة الآسِرة، بحُزمَة مَزايَاها الشاخِصَة، ورِزمَة مَناقِبها الحاضِرَة، في صِهاء تلافِيف أذهان أفراد المجتمع الواحد؛ لتغدو رُيُوع آثارِها الحمِيمة وارِدةً مَاثلةً في سُلوك الأفراد؛ وتَسود، على مِنوال إِثرِها السوِي القوِيم، سُبل مَواكب السلام؛ وتتسابَق دِفاف وجهة الوئام؛ وتَعمّ أدْفَاء أحضان الانسجام… ولعلّي مُجَددًا، أظفر بذكرِ بَعضٍ مِن أقربِ مُنطلقات وحَلقات سلسلة مَزايا ومَحاسِن السماحة… فأولها: إلقاء سُنّة التحية والسلام، على الفرد والجماعة؛ ولِقاء الناس بوجهٍ بَاشٍ مُبتسمٍ؛ والنظر في وجُوهِهم، بمَنأى عّن مَظاهِر العُبوس والتجهّم والتجاهل. وثانيها: التسامُح والتغافُل المُدرِك الواعِي، عن زلّات وعَثرَات الآخرين، والتغاضِي المُتسامِح عن هَفوات لَمَمِهِم؛ وعدم المبالغة في تَضخِيمِها وتَعظِيمِها، مَا استطاع المرء إلى ذلك سَبيلًا… وإنْ أدرك صَاحب الزلّة خطأ زلته العابِرة لاحقًا، فسيُكبِر ويُجِل مَن بادرَه برِداء السَّتر؛ وشاطَره وِشاح التسامُح والتغافُل. وثالث جَوهرة في جَوف سَفط مَزايا السماحة: عَدم إبداء التشدّد والتعنّت في التعامُل مَع الآخرين؛ وبَدلًا عَن ذلك، اتخاذ أوسَط الأُمور المُثلى في حلّ وإنهاء وَتِيرة الخِلافات المُتفاقِمة؛ وقَبول العُذر، مِمّن اعتذر واعتبر؛ وعدم المُبالغة في المُعاتبة المُهينة… وهُنالك يَسطَع ويُضِيء قول نَبينا الكريم، عليه وآله أفضل الصلاة، وأَتم التسليم: (مَا زادَ اللهُ عَبْدًا بعَفوٍ إِلّا عِزًا)*. ورابعها: قَبول النصِيحَة الصادِقة، بعد تقديمها بأَتمّ أِسلوبها اللَّين المُتلطِّف؛ والأَخذ بالمشُورَة، النصُوح، بنفسٍ سَمْحَةٍ مِطوَاعَةٍ… ومَا خَاب مَن استشار…!

ولَعَلّ كَفّة مِيزان السماحة الذاتية الثقيلة، تكون رَاجِحةً دَومًا، وإنْ تَغافلَ وتَجاهلَ مَحامِدها الخَيّرة، الفرد الغليظ الجِلف، سَاعة… فَما لامَست، بحِكمةٍ وحِنكةٍ، نُعومَة أطراف أنامِل السماحة الحانِية بين رَاح أيدي ثلة المُتخاصِمين المُتنازِعين المغلُولَة مَرّة، إلى أعناقِهم، إلَّا زَادتهُم استحسانًا وصُلحًا؛ وزَانَت برِفقٍ ولُطفٍ مُستحقّين، دَخِيلة حَكيمِهم، الأكثر تَسامُحًا، والأبلغ لِينًا؛ وعزّزت سّريرته ثِقةً وأمَانةً؛ وأَسدَتهُ- بنَماءِ الأرُومَة؛ ومَنحَته سَخاءِ المَحْتِد- عِزًا، وكَرامةً، وسُؤددًا؛ يُشجِي- بكَريمِ ونَعيمِ سَويّتهم المُثلى- سَائر صُفوف المُتشدّدِين؛ ويَغم ويُؤلِم، جَمع المُتشبّثِين بصَلابَة مَواقِفهم المُتكَلّفة المُتحذلِقة.

ولَا يَفُوتنِي هُنا، ذِكر أندى مَوقف مَفصلي مُعاش، يَرتَوِي نَصله احتسابًا، مِن نبع رِفد خُلق السماحة الجَواد المِعطاء… فَفي قُبيل مُنتصف الثمانينيات، مِن القرن الميلادي المُنصرم، كُنت أدرِس “كُورسًا” مُتقدّمًا في جَامعة “نورث تكساس” الأمريكية، في تخصص: الاتصال، والخطابة الجماهيرية، عند الاستاذة الدكتورة: فيكتوريا أودينل، مُحاضِرة وعَميدة القِسم المذكور نفسه؛ وهي مِن أصل”نيوزلندي”… والمُهم في صَمِيم جَادة الموضوع، أنّ الأُستاذة النشِطة، المُرهَفة المَشاعر، كانت تهبني مشاعر “الأُم الرؤوم” كَونِي المُغترِب الوحيد في كورسِها الدراسي، آنذاك… وكَثيرا مَا تطلِب مِنّي الحضور إلى مكتبها، خارج المُحاضرة… فما إنْ أطرِق بَابَها، حتّى تنهضَ مِن مَقعدها، برشاقةٍ مَشهودةٍ، وتقدّمَ لي مَقعدًا أَنيقًا، بعد أنْ قامت بمسحِه بمِنفضَةٍ مِن رِيش النعّام الفاخِر، وتشير لي احترامًا وحَفاوةً بالجلوس؛ لِتتحِفني بما يَشرح النفس، ويُبهج الخاطِر… وأَرَاهَا قد أَبدعّت وأحسنت قَولًا وفِعلًا وضِيافةً، بفائق حِسّها الفائق الحاني؛ وتغلغلت ذاتيًا، في عُمق سِجلّ “قراءة أفكاري”… ولعل لَقطة هذا “التكرّم والتعزّز” الماثلين لَحظةً، أمام مدّ ناظِري، مَا هي إِلَّا لقطةٌ واحِدةٌ مِن وِرد صَيدِ سلسلةٍ مِن أندى “المَكرمَات” التي غَمرتنِي بها يد الأُستاذة الحانية… عِندئذٍ، أَحسَسْت بأنّ بُسط خُلق السماحة القشِيبة الفُضلَى، ومِثلها، أخواتها التِّرب: المُروءة، والجُود، والدَّماثة… قد تجسّدوا وتمثّلوا، عن بَكرةِ أَبيهم، تحت مُنحنى قُبّةٍ عُلويّةٍ فُسَيفِسَائيةٍ مُضِيئةٍ “بسماحة” الأخلاق السامية، ونُبل الكَرم المُغدِق؛ وقد سُرِرْت بتنويلِهم الماثل، أَيّمّا سُرُور؛ وغُمِرتُ حَفاوَة، برِفدهِم الضافي، مِن أعلى الرأس، إلى أخمَص القدم…!

وأَمَّا مُبدِي السماحة، الحذِق، فهو فردٌ نَزِيهٌ شَرَيفٌ، قد تَمرّد وتَجرّد عَن مُنزلقات التعنّت المُقِيت؛ وتَأَبّه وتَرفّع عن مُردِيات التصلّف المُستهجَن؛ وناءَ بجانِبه الأَغَر الأَعطَر تنزهًا، عَن سَقطات الأنانية المُخزِية، وحُبّ الذات، وسَفاسِف الأُمُور… فإن شعّت النجوم لَيلًا بضِيائها الباهِتة الخافِتة- ظُهُورًا ومَغِيبًا- فمُبدِي السماحة هو حَاضر، رَائد، بَارز، يُرَى مِن حَوله، بأَريحيةٍ وشَفافيةٍ، كفلقة البدرِ المُتألّقِ في وسَط زُرقة عَنان سَماء الصفاء المتّسعة الآسِرة… وبتشبيهٍ آخرٍ، فرافع لِواء السماحة الشهم، كالعالِم النِّحرِير الحَفِي، المَشهُود له بكَثرة العَطاء والكَرم، ودَوام اللُّطف…!

ولَا يَكَادُ يُنكِر أحدُنا مَا للروحِ المقدّسةِ، مِن أَجلّ المزايا، وأَنبلِ الفضائل، وأَجملِ الخِصال… وكَثيرًا مَا يصِف الشعراء المُفوّهِين والكُتّاب المُبرّزِين “كُنهَ الروحِ” المُضيئةِ النورانيةِ، بأطيب الصفات الحَميدَة، وأَسمى المَراتِب الجَليلَة… فيُقال عنها، استحسانًا واستجوادًا: خِفّة الروح، وجَمال الروح؛ ومِثلهما، روح السلام، وروح الألفة والتعايش، وروح الفِكر، وروح الجَماعة… وكلّ تلك المنابِع الصافية المُتَجدّدة مِن الصفات الحِسَان، تّندرِج، انسِياقًا وانقِيادًا، تحت مِظلة خِفّة وسماحة الروح، المبجّلة، بأروع نقاء صِفاتِها المِلَاح؛ والممدوحَة بأَجمل صَفاء نُعوتِها البهَايَا… ولَا غَاب نظمُ الشاعر المُرهَف، ساعةً:
اقبل على الروحِ واسْتَكمِل فَضَائلَها… فأنتَ بالروحِ، لَا بالجِسمِ إِنسانُ
وبالله التوفيق، وحُسن السداد.


* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة ص 435



error: المحتوي محمي