لكنَّها لم ترحل.. «16»

يتشح الفُؤاد بالحُزن، الدّموع، كأنَّها الجليد حط أمتعته تتزحلق بلا أثر مُتجمدة، لا تسمع في هذا المكان المُحيط بالذكريات سوى رائحة لم تغب يومًا، ولم يكتنز الشّوق إليها الرّماد، وتنطفئ جذوتها.

عبير دخلت في حالة قلق قسري، يلفها الاكتئاب كلحاف، تحنّ إليه، لتستريح من ألم الفراق.
ألن تُمطر السّماء هذا المساء بالرغم من كل هذه الغيمات التي تُعانقها، أم أنَّها، كقلبي..؟! تأنّ عبير في ذاتها
أريد أن أكتب رواية عن الصّمت، عن الأشياء التي لا يقولُها الناس! يقُول فرجينيا وولف: “ما بالنا ونحن نحزن، نُقلم أظافر الوقت، ونغفو الهُنيئة على ضفتيه”.

لم يكن رحيل والد عبير، كأيّ رحيل، ولم يكن انقطاع أنفاسه عن الحياة، كأيّ حدث، يُدلك الوقت وجعه، ويُبلسم الألم، ليُخفف وطأته في حياة عبير.
جالسة مع أمها، التي تُرضع أختها الصّغيرة، وهما يتهامسان، تُناغيها، وتغني لها أغنيات الماضي الجميل، الأغنيات الشّعبية، التي تناقلتها الأجيال، وعبير، تحكي إليها عن أحداث الأسبوع في الجامعة، وقصصها مع حنان وياسمين، والأم تُصغي بشغف الأمهات إلى صوت فلذات أكبادهن، يأتي الصّوت، كهمس العاشقين، يُرطب القلب، ويبث فيه عنفوان الحياة.

لقد تأخر والدي، يا أمي، ليس من عادته أن يتأخر، إنّي مُشتاقة إليه كثيرًا.
سيأتي يابنتي، لا تكوني عجولة.
سقطت الطًفلة، الأم واقفة، تصرخ، تُهرول عبير لها، تحتضنها، والبُكاء، يعلو في زوايا المنزل، تقدّم خالها جاسم، وهو يبكي، لأخذ الصّغيرة من الأرض، ويصرخ في أخته أم عبير، الدّم يخرج من رأس ملاك، حدّقت عبير بقوة الأسى في أختها، لا تلوي إلى شيء، أفاقت أم عبير من الإغماء، وهي بين أحضان عبير، شيء من عدم اليقظة، إلا بصيصًا، وصرخت: ابنتي.. ، صغيرتي، أخي لنذهب إلى المُستشفى سريعًا، اذهب، أحضر السّيارة.

المُستشفى لم يكن بعيدًا، قرابة العشرين دقيقة، استغرق المشوار، أسرعت عبير بأختها، وأدخلتها حُجرة الطّوارئ بينما أم عبير، تُحاول أن تُدرك ما جرى، ملقاة على كرسي السّيارة، مسح أخوها جاسم على وجهها، رشحه بالماء، لتفيق من حالتها، تُحاول فتح عينيها، تُتمتم، يا سندي، أين ذهبت، وتركتني وحيدة، يا قلبي وروحي، وتدخل في حالة بُكاء شديدة، وهي تضرب جاسم على صدره، هل حقًا تُوفي أبو عبير، قل لي إنها مُزحة، كذبة، قل أيّ شيء، إلا الموت، وهو يهز رأسه، ليُغشى عليها مرة أخرى.

ذهب جاسم إلى قسم الطّوارئ، ليطمئن على صحة الصّغيرة، ويطلب من الاستقبال أن يأتي معه من يحمل أخته إلى الطّوارئ، فحالتها لا تسر.
ببدو أنَّها تحتاج إلى العلاج من هول الصّدمة. يُحدث نفسه بتأنيب ضمير
توجهت مُمرضتان، يُرافقهما مُمرض شاب إلى السيارة، وأدخلوها إلى حُجرة الطّوارئ بكرسي مُتحرك، وهي لا تُدرك ما حولها.
انحنى جانبًا، يلوم نفسه، خائفًا على أخته، والصّغيرة، وذلك بسبب طريقته في نقل خبر رحيل زوج أخته عن هذه الدّنيا لهم، إحساس مُؤلم أن تكون سببًا في ألم الآخرين.
ينتحب مُتكورًا على نفسه، اتصال على هاتفه النّقال، يُخبره بضرورة الحُضور لإكمال إجراءات الدّفن، وتسلم الجُثة، ومُواراة “أبو عبير” إلى مثواه الأخير.

كان المُتحدث عليًا، الأخ الأصغر لجاسم وأم عبير، أخبره جاسم بأنه في المُستشفى مع أخته أم عبير، وسيعود بعد الاطمئنان عليها، وطلب منه أن يقوم بإنهاء جميع الإجراءات، اكتفى بهذه الكلمات، وأنهى المُكالمة.
عبير بجانب أختها ملاك، تتأمل ملامحها، تحكي معها أحاديث لا نبرة صوت فيها.

مرَّ أسبوع على وفاة والدها، كانت كلّ من ياسمين وحنان بقُربها حتى انتهاء أيام العزاء..
وبعد كلّ حُزن، وبعد كلّ فقد، حياة جديدة، تنتظر الإنسان، مُعالجة نفسية، يحتاجها، ليُكمل مسيرة الحياة.
هذا ما اتفق عليه حديث ياسمين وحنان، مع عبير، بأنَّ عليها أن تتحلى بالصّبر الجميل، أن تكون عصامية، كوالديها، أن تتحمل المسؤولية المُلقاة على عاتقها، فأمها تحتاج إليها أكثر، الآن..



error: المحتوي محمي