بين الهوندا والبورش

أقود من العام 2012 سيارة هوندا أكورد سوداء، جعل لونَها طريقُ الرياض باهتًا مبيضًا في بعض أجزائه كلون شعري الممتلئ بالشيب من ثاني متوسط، ومع أنني من عشاق البورش كايين وكثيرًا ما سولت لي نفسي أن أقتني واحدة بعد قرض يجعلني لستة آلاف سنة مقبلة مفلسًا إلا أنني كلما تذكرت أن سعر القماشات مع الهوبات بخمسة عشر ألف ريال أتراجع عن ذلك، وكلما جلست مع صاحب بورش يتحدث عن جمال سيارته وأناقتها التزمت الصمت مقدرًا له ثناءه البالغ على سيارته، إلا أن الغريب أنني رأيت مليًا في الست وأربعين سنة التي خلقني الله فيها على هذه البسيطة أناسًا يقودون هوندا أكورد 2012 سوداء باهتة من العج مثل سيارتي وهم يشرحون لأصحاب البورش عظمة سياراتهم وفخامتها البالغة وكيف أنها حين تسير على الهايوي فإن صاحبها يشعر وكأنه يقود قطعة أثاث رائعة، إنهم يسهبون في ذكر مآثر الهوندا ووسائل الترفيه العظيمة فيها بينما يبادلهم أصحاب البورش ابتسامة صفراء باردة مليئة بالحنان والشفقة على تلك العقول الساذجة!

الحديث عن الثقافة من زاوية المنفعة التي تضيفها إلى الإنسان في مضمار تكامله المعرفي هو حديث الهوندا والبورش بنسبة قد لا تكون قليلة، هناك من يتحدث عن ديفيد هربرت لورانس في روايته الرائعة عشيق الليدي تشاترلي بصفتها البورش كما يبتسم ابتسامته الساخرة تجاه من يتعلم شروط صحة وقبول الصلاة بصفتها الهوندا التي تشبه شعري، وهناك من يُكبر ملا يقرأ بيتين على الحسين بصفته بورش كايين ويبتسم ابتسامة صفراء على من يتحدث عن روبرت لويس ستيفنسون في روايته: (د. جيكل ومستر هايد) بصفتها الهوندا التي وجهها معجوج، كل ذلك كما أظن يعود إلى اختيار معايير العلم والثقافة النافعة، تلك المعايير التي تجعل الخطيب، الكتاب، البرنامج التليفزيوني، كالبورش وآخر كالهوندا، إنني أظن أن الشيطان أو أي مفسد ينبغي عليه أن يتحلى بالحكمة البالغة وأظنه كذلك، تلك الحكمة التي تعني وضع معايير تجعل المثقف يقرأ سبعة آلاف رواية وكتاب في جميع علوم الدنيا ولكنه يموت دون أن يعرف أن هناك عبادات ومعاملات ينبغي معرفتها بالشكل الصحيح، ليس ذلك فحسب، بل يضحك بحيث تتلألأ اللوز في حلقه حينما يجد من يقرأ في دينه، كل ذلك لماذا؟! لأن البورش في نظره هو دوستويفسكي ورائعته الأخوة كارزاموف، والهوندا المشلخة هي الصلاة.

من الجميل أن يبني الإنسان لنفسه جدولًا دراسيًا في حياته الثقافية، جدولًا يختار فيه العلوم النافعة والأساتذة البارعين، اقرأ، تعلم، ثقف نفسك فيما شئت من العلوم، ولكن حاول أن تعرف البورش كايين الحقيقية لتقتنيها، واحذر كل الحذر ممن يصور لك سيارتي الهوندا المعجوجة على أنها بورش، ولو وقعت في هذا الفخ فستحرم نفسك من سيارة جميلة رائعة حتى وإن كانت قماشاتها مع الهوبات بخمسة عشر ألف ريال!



error: المحتوي محمي