تأمّلات متدبّرة في مستور وظاهر حقيقة النفس والروح

ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأيت تأمّلاتي جُلّ أوراقي

1. ولَعَلّ حَيرةَ جُلّ عُظماء الفَلاسِفة؛ وتِيهَ كلّ كِبار صُفوف المُفكّرين- مِن ثُلّة المُتقدّمِين، ولَفِيف المُتأخّرِين- بإقحَام، وإعمَال، شَاطِح ومُسترسِل، قائم “ذَخِيرَة” أَخْيِلة عُقولِهم المُستبصِرة المُستقصِية، في فَكّ شَفرات؛ ومَعرفة كُنه أسرار؛ وحَلّ غامِض عُقدة حَقيقة جَوهر الرُّوح، إنّما هُو ضَربٌ مُضلٌ خَادِعٌ، مِن بَاهتِ طَيفِ بَريقٍ خَاتلٍ، مِن زيفِ زُرقةِ السرابِ المُموّهِ، تَترَاءى لِعين الناظر، بخِداعٍ ظانٍ وَاهمٍ؛ ويَتمارَى لآخر صَفّ المُنظّرين والمُتأمّلين الحَيارى، أنَّ جَوهر شَاخِص مَرأَى عَين وَمِيض هَالة الروح الافتراضِية، أمام ناظِريهم، هو صَفو “مَاء الحياة”… غيرَ أنّ وَضَحَ وجَلاءَ نُورَ الحقيقة الدامِغة، تَحوطُها قبضةَ وِكاءٍ سَميكٍ سَتْرًا؛ وتُغلّفُها سَيطرةَ وَثاقٍ مُوصَدٍ مُؤكّدٍ، بوَعدٍ مُحكمٍ تامٍ سِرًا؛ ويَحتوِيها وَاقعًا مُشدّدًا مِن غِلاظ وشِداد أغلِفة العِفاص، قَفْلًا… بصَرِيح مُقتضَى نصّ أسرَار الآية الكَريمة العَظيمة: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوْحِ قُلِ الرُّوْحُ مِن أَمْرِ رَبَّي وَمَا أُتٍيْتُم مِّنَ العِلْمِ إلَّا قَلِيلًا)*.

2. وكَثيرًا مَا يَتردّد ذِكر النفس، في آي الذكر الحَكيم؛ ولعلّ مَضمُون لُبّ مَعناها الأشمَل، يَضم الروح عِندما تحِلّ ابتداءً، في بِنية الجسم… وعِندما تفارقه وَداعًا، “بتأشِيرة” خُروج نهائي، وتُقبَض إلى كنفِ ربّها؛ عِندئدٍ تُسمّى رُوحًا خَالصةً صِرفةً، ويُسمي بَعدها رُفات الجسم مَيْتًا… أمّا النفس البشرية، فهي حَبيسَة أعضاء الجسم، ومَعنِيّة بمَظاهِر السلوك السوي، ونقِيضه الانحراف المُفرِط… هذا، وعِند مَشارِف التقهقُر الواضِح في تَحقِيق وإحرَاز تقدّمٍ بَحثِيٍ مَلمُوسٍ، يُعزَى إلى ظاهِر مَعرفة حَقيقة جَوهر النفس؛ ويَرقَى قُدُمًا، إلى تَقصّي أسرار مَخدَع كُنهِها المُحصّن، في مُحكم قرارِ مَكنونِ- حَبلها السرّي- فقد دَأبت وانصبّت، وتكاتَفَت، وانصّرفَت جُلّ غَاية ومُبتغَى قُصارَى جُهود العلماء الأكاديميِين، على إثرِها المجهول؛ وانبرَت مُثابَرات عَزائم الباحِثين الميدانيين تِباعًا، إلى دِراسة، وتوصِيف، وتحلِيل مَظاهر السلوكيات المُمارَسَة للنفس؛ وأغفلوا، بقُصُورٍ وفُتُورٍ، مَسار زَحمة الخَوض، ومَسلك غَمرة الغَوص، وشِعْبِ رَغبة التعمّق في دِراسة حَقيقة وجَوهر النفس البشرية ذاتِها… وبمَتن مَنهج هذا المَنحى الأكاديمي الناقِص، وإنْ نَاله غامِر شدِيد الترحِيب المؤيد؛ واكتسب بريقه عَريض القَبول الموحّد، مِن واسِع بوابة أبحاث العلوم الإنسانية؛ إلّا أنَّ مَحْتِد نواة “مَصل” حَقيقة الروح، يَظلّ نَاقِصًا مُعتلًا، في تناول لُب مَصلِه، وطرحِه المُخترق الأبتر؛ ولَن يرقَيان إلى مَنهج علمٍ بَشريٍ مَعروفٍ؛ أو يَصِلان إلى جَوهرِ مَعرفةٍ مَلمُوسةٍ… !

3. ولَقد أوضَحَت بتفصيلٍ وافٍ، وتبيين جَلىٍ، آيات القرآن الكريم حُدود وقَوالب، ومَراتب النفس البشرية، في مُجملِ رَحِيبِ مَيدان، وفسيحِ مُعترك سُلوكِياتها: مَحاسِنها، وسَيئاتها، وَاصِفةً إيّاها على النحو التالي… النفس الأَمّارة بالسوء: وهي في الدرَك الأسفل، أو قَاع الحَضِيض؛ والنفس اللوامَة: وهي كَثيرة اللوم والمُعاتبة، وقد أقسم الله بها في الآية الثانية، مِن سُورة القيامة المُباركة؛ تَليهما، عُلوًا وسُموًا، مَقَام النفس المُطئنّة، الدائبة في جَناب الله تعالى؛ وقد خَاطبها، وشرّفها، وأَعلى شَأنها الخالق، عزّ وجلّ، في نهاية سورة الفجر المباركة.

4. وعِندَ مُفترف أعتاب لَحظات، ومَدارِج هُنيهات مَرحلة استشراف التأمّل، ولَحظات التدبّر المُستفيضَة “الحَرجِة” في كُنهِ وكَيفِيّةِ خَالق الكَون، ومُدبّر الأَمر؛ تكِلّ الأَذهان، وتَعيا العُقول، عَن إدراك ورُؤية خيطٍ رَفيعٍ واحدٍ، يُوصِل إلى أدنى مَعرفةٍ؛ أو يَهدي إلى تَوصِيفٍ، أوتَحدِيدٍ، أوتَجسِيمٍ للذات الإلهية، قلبًا وقالبًا… وبِما أنّ كُنه حقيقة الروح مِن أمْرِ وشَأنِ رَبّها، ومُدبّر أمرها، الفرد الصمد؛ وبَارئها العالِم الأَوحَد بأسرارِها، وخَفايا تفاصِيلها، وجَوهر بواطِنها الخَلقية الإلهية… فَلا غَرابَة، أن تَعجز عظمة عَقل الإنسان المُستنير، بخُسرانِ جَهلٍ ظاهرٍ؛ ويَخفق بِبُطلانِ عِلمٍ سَافرٍ؛ ويُمنى بتصوّرٍ وإِدراكٍ ناقص؛ للوصول أو الإقتراب مِن مَعرفة دَخِيلة ومُحتَوى الروح، جُملةً وتّفصِيلًا، مَا دَامت نفخة الروح، مَشمُولةً ضِمنًا، بفَائق الستر المُحكَم؛ ومَحفوفَةً اشتمالًا، بعَظيم الخفاء الدّفين… شأنها، شَأن المُغيّبات القطعِية، وأَمرها، مِثل سَائر المَحجُوبات الخَلقية، التي اختصّ، وانفرد، واستأثر بعلمها، ربُ العزّةِ والجلالِ؛ وأخفاها حِكمةً وتَدبيرًا، عن حَاضر عِلم، وطَائل إِدراك جُلّ سَائر حَواس الأَجناس مِن مخلوقاته، إنعامًا وامتنانًا.

5. وهُناك ثَمة أمرٍ، تَحليلي استدلالي، يُعزى إلى عَلاقة دَخيلة النفس بالروح، مّفاده: أنّ النفس مُنفصلةٌ تمامًا، عَن الروح، وليس بينهما اتصال مَزجِي يُذكر، بدليل أنّ النفس مَوعُودة بالموت والفناء المُحقّقين، وليس لِكُنهِ الروح المقدّسة مِثلها؛ ويُستَدلّ على ذلك بالآية الكريمة: (كُلُّ نّفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ ثُّم إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)*… ويَرى مَن يُساند هذا الإتجاه أنّ هُناك اتصالًا مُتماسًا تَدبيريًا، بين النفس والروح؛ بدليل أنّ الروح ليست لها خَصائص ومُكونات مُشابهة للنفس… لتلِج وتمتزِج اتحادًا، مَع النفس؛ وبِهذا المفهوم الواضح، فالموت والوفاة يَحدثان مِن لحظة انقطاع تأثير مَدِّ الروح الحيوي النشِط- واتصالها التدبيري- عَن الجسد؛ وهو مَرحلة انتقالية مِن عَالَم الحياة المادية، إلى أبديّة مَقام عَالم الحياة الأُخرَوية… وفي هذا الصدد، تخطرني هَمسة البيتين التاليين:
يا خَادمَ الجسمِ كَم تَشقَى لِخدمتِه… أتطلِبُ الربحَ مِمّا فِيه خُسرانُ
أقبِلْ على الروحِ واستكملْ فضائلَها… فأنتَ بالروحِ لا بالجسمِ إنسانُ.

6. وكَثيرًا مَا تكون خِفّة الروح المُعتبّرة الشفيفة، مَصدرًا حَقيقِيًا للسعادَة الروحية المُثلى؛ ومَنبعًا زَاخرًا بفَيضٍ صُراحٍ مَن سُمو الصفاء الروحي، وعُلوّ مَرتبة مِن التآلف النفسي؛ ومَرجِعًا لمُثول النقاء الذاتي؛ وحتى نفحة التأثير الإيجابي، في أذهان ووِجدان الآخرين…! ورُبما تُمثّل هَبّة السلام الداخلي، مَع سَويّة سَرِيرة النفس المُبتهجة، طريقًا سَالكًا، يُوصِل إلى أقرب بَوابة قَوام السعادة الواسِعة… فَمنثُور السعادة الروحية، لابُدّ له أَنْ ينبع مِن لُباب دَخِيلة النفس؛ ليتّسع عَبيره الفوّاح؛ ويَتمازج نِتاج شَذاه العطِر، قلبًا وقالبًا، مَع حُرية انطلاقة التحلِيق الذاتي الرشيق، في أمتع أَجواء السعادة الروحية الشاملة؛ ويختال ضاحِكًا، في حَلبةٍ فارهةٍ لمَسرح طوِيّة النفس، الراضِية المُطمئنّة؛ ويُوآزِر وَميض عَطاء ذلك البثّ المُتواصل مِن فيض النقاء الروحي المُتألّق، بمعيّة الارتباط التعبّدي الروحاني، في كّنف الذات الإلهية العظيمة؛ وهَبّات جِهاد السعي الجاد الحثِيث؛ للتقرّب إلى جَنب الخالق- عزّ وجلّ- بأَصناف العبادة، ومُفردَات الطاعة، ودُرُوب الفضيلة، التي أُمِرْنا باتباعها؛ وإشهَار “مُدْيَة” حادّة جارِحة في وَجه مُنحدرَات هَوى النفس المُهلِكة، ومُنزلقَات مُردِيات الرذيلة المُدمّرة… وقد أعجبني بيت تاجٍ فاخرٍ مِن شعر الحكمة، في وَصف وَاقع السعادة، لصَفي الدين الحِلِّي، شَاعر الرقّة والرفعَة، وفارس الحِكمة الحَماسِية:
إنْ كُنْتَ تَسْعَى لِلسَّعَادَةِ فَاسْتَقِمْ… تّنَلِ المُرَادَ وتَغْدُ أَوَّلَ مَنْ سَمَا*.


* سورة الإسراء- آية 85
* سورة العنكبوت- آية57
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة- ص 339



error: المحتوي محمي