سيرة طالب (٣١)

رحلة سياحية

يُنقل لنا في الحوزة أنّ العلماء والمراجع يقولون بضرورة أن يمرّ طالب العلم بفترة نقاهة واستمتاع بعد تعب المطالعة، فتُنقل بعض قصص جميلة لا توصف في رحلاتهم، واقتداءً بالعلماء، نطرح في هذه الحلقة بعض رحلاتنا الترفيهية.

المعمورة
ذهبنا نحن مع مجموعة من الجيران الذين يسكنون في مقرّ إقامتنا في حيّ السيّدة زينب (ع) في رحلة جميلة إلى قرية تسمّى *المعمورة*، وهي قرية سورية في ناحية دوير رسلان التابعة لمحافظة طرطوس، قرية الينابيع والمغاور والوديان.

قرية جبلية الطبيعة تمتدّ بحاراتها على سفوح عدة جبال متجاورة. وتمتاز بطبيعتها الجبلية الساحرة الجمال وبهوائها العليل وطقسها المعتدل صيفاً والبارد شتاءً، وجبالها مغطّاة بأشجار السّنديان والبلّوط.

أهل هذه القرية كلّهم مسيحيون، تحوطها جبال أربعة تشبه الصّليب، وهذا من العجائب، ورأينا بأعيننا لما ركبنا إلى أعلى جبل من تلك الجبال الأربعة.

كما أنّ فوق الجبال كنيسة بابها ضيّق لا بُدّ أن ينحني الداخل إليها، فكأنّما المنحني هو خاضع لمقام الكنيسة، فامتنعت عن الدخول، وهناك لا يوجد أحد غيرنا، وأمّا بعض المرافقين في الرحلة، لم يروا بأساً في الانحناء الذي يمكّنهم من الدخول إليها بدافع إشباع فضولهم، والأنس بجولتهم داخل الكنيسة.

لما كنّا نمشي تحت الجبال، كانت السيول الباردة تمشي معنا في خطٍّ موازٍ، وهو ماء بطعم السُّكر.
كم كانت عجيبة هذه الجبال وأهلها وطبيعتها وكنيستها!.

أنا وصديقاي
وممن رافقني في هذه الرحلة الجميلة، الشيخ ميثم الخنيزي، وصديقه اللبناني الذي غاب اسمه عن ذاكرتي الآن.
وكان سفرنا السياحي من سورية إلى لبنان.

أول محطة نقف فيها هي بيروت، التي كانت مقصداً للكتّاب والمثقفين العرب لطباعة ونشر وتوزيع كافة أنواع الكتب، حتى المحظور منها في دول عربية أخرى.

ومن المناظر الجميلة التي لا تغيب عن الذاكرة يوم كنّا في بيروت أو في أطرافها نسير بالسيارة في قمة جبل ونحن نرى الغيم والسّحاب على الأرض.

كما لفت انتباهي ما تقوم به محطّات تزويد وقود السيارات من تقديم هدايا مختلفة للسائق، ومنها أطباق الأكل ذات الأحجام المختلفة، فقلت لأصحابي إنّ الهدايا التي تقدّمها المحطّات في بلدي المملكة العربية السعودية محصورة في علبة المناديل الورقية التي غالباً ما تكون ذات جودة منخفضة.
ووصلنا إلى قرية بشري، وما أدراك ما بشري!.

بلدة الملهم جبران
*بشري*، البلدة اللبنانية التي تقع على حدود وادي قاديشا على ارتفاع 1550 متراً فوق سطح البحر، وهي عاصمة قضاء بشري التابع لمحافظة لبنان الشمالي، كما تعتبر البلدة الوحيدة التي ما يزال يتواجد فيها محمية تضمّ ما تبقى من أشجار الأرز اللبناني (أرز الرّب) النادر الوجود.

تنظر هناك إلى الغابات الكثيفة تحيط بالجهات الأربع، وكم تأسّفت؛ لأنّه لم يكن بحوزتي كاميرا أوثّق بها تلك المشاهد التي تضفي على الطبيعة مناظر تأسر القلوب.

ولكن لفت انتباهي بشكل كبير أمران:
*الأول*: كثرة أشجار الأرز الضخمة، وعلى الخصوص تلك الشجرة التي يوجد بوسط ساقها “بوفيه” لبيع الأطعمة والأشربة.
*والآخر*: منزل جبران خليل جبران، وفيه قبره، والعجيب أنّ نصف هذا المنزل منحوت داخل الجبل، ونصفه الآخر مبني خارج الجبل.

كما أنّ الواقف في شرفة المنزل يمتّع بصره بالنظر إلى كلّ منازل القرية، فجال في خاطري أنّ من يعيش في عظمة وروعة هذه الطبيعة لا بُدّ أن يكون جبران خليل جبران، ذلك الشاعر المسيحي، والكاتب، والقاصّ، والفيلسوف، وعالم الرّوحانيات، والرّسام، والفنان التشكيلي، والنّحات.

كتاب النبي
زيارتنا لمنزل جبران ألهمتني ودفعت بي إلى التعرّف أكثر إلى شخصيته ونتاجه المتعدّد الاتجاهات، فما إن عُدنا إلى حيث نسكن في حيّ السيدة زينب (ع) حتى بدأت أقرأ بعض كتبه، ومما أعجبت به من كتبه، وكلّ كتبه موضع إعجاب، كتاب اسمه *(النبي)،* وهو من الكتب الجميلة التي إن قرأتَها متقمّصًا شخصية الأديب، فستراه يغوص في بحرٍ عميق من ألق المفردات، وروعة السّبك، ومراعاة مقتضى الحال.

وإن قرأتَه متقمّصًا شخصية الأخلاقي، ستراه طائراً محلّقاً في سماء الفضل والجمال، يأخذ بيديك إلى التخلّي عن الرّذائل، ثم التحلّي بأسمى صفات الفضائل، فأنعم نظرك بمطالعة صفحاته مرّات ومرّات، ففي التجارب علم مستفاد.

وليس بعيداً أن توجد في لبنان وغيرها قرى مشابهة لقرية بشري، لم يُكتب لي زيارتها، ولكنّ “بشري” هي واحدة من أجمل القرى التي زرتها حتى اليوم.




error: المحتوي محمي