جناب المحترم «ماغاوا»

يلقي الرجل بجثته على سريره، لقد هزل جسده وأصبح كهيكل عظمي مُغطى بالملابس، كانت عيناه تحومان في السقف، كما لو أنه يبحث عن شيء أضاعه في الأعلى، بيد أنه لم يكن ينظر إلى شيء؛ ذلك لأن ذاكرته كانت تعيده إلى الخلف وتقذفه إلى حيث ماضيه.

للتو عاد من حفل كبير أُقيم من أجله تكريمًا له على إنجازاته في الحرب على دولة مجاورة، حيث أحيل إلى التقاعد، صفَّق له الحاضرون بحرارة، وسُلِّطت الكاميرات عليه، صافحه مسؤول كبير يحلم كل فرد من أفراد الشعب أن يصافحه. لقد وهن عظمه وترهل جلده الآن، ولم يعد يذكر كم قابل من الجنود، وكم قتل من الأعداء، وكم ألقى بالقنابل على الأبنية والحدائق والمدارس.

وفيما هو مستلقٍ إذ أغمض عينيه فرأى جرذًا أخذ يقرض بَزّته العسكرية، كان سريعًا في قرضه، وفيما هو كذلك قام سريعًا، ظن أنه بوقوفه هذا سيُفزع الجرذ إلا أنه ظل يواصل قرضه؛ فاحمر وجهه وراح يصر بأسنانه متهكمًا وهرع إلى بَزّته محاولاً إبعاده عنها، إلا أن الجرذ لم يجبن ويرتد، بل كلما مدَّ كفه الضخمة المليئة بالعروق والشعر عضه، حتى مُلئت بالخدوش ونزفت بالدم الغزير، فبدأ يستنجد ويصرخ: أنقذوا بَزّتي، أنقذوا بَزّتي. ولم يتركها الجرذ حتى باتت خرقة بالية مُلئت بالشقوق وتدلت الأوسمة من على كم البَزّة كما لو أنها تستنجد خوفًا من السقوط. تراجع للخلف وألقى بجسده النحيل الذي بات يشبه عود القصب، وعيناه تدوران في المكان، وقبل أن يرحل الجرذ رمقه بنظرة ورحل إلى جحر عميق ومظلم لم يره من قبل.

أفاق الجندي من غفوته مذعورًا وجسده سابح بالعرق، اعتدل في جلسته وأول شيء فعله أن أشاح بوجهه إلى حيث البَزّة، فرآها معلقةً كما هي وقد ثقلت بالأوسمة، كان قد لبسها في أثناء خوضه الحروب، كم تبدو بالية الآن وباهتة اللون بعد تقاعده عن العمل! أراح جسده الكسول وأخذ يفتل شاربه الأبيض الكثيف. كانت عيناه الزرقاوان اللتان كانتا ترعبان الناظر إليهما، قد بدتا الآن هادئتين منطفئتي الحدة.

أراد العودة إلى النوم ولكنه لم يستطع، فنهض وشرع يفتح ستائر النافذة وبرز البدر بنوره الساطع، كان نور الغرفة منطفئًا فتناول هاتفه النقَّال وفتحه وأضاء الغرفة، كانت الإضاءة تزعج عينيه الضعيفتين، حيث أخذتا عيناه تدمعان بفعل الحساسية إلا أنه كان يراقب بكثير من الاعتزاز والفخر صوره في تطبيقات التواصل الاجتماعي، فقد امتلأت بها والكثير من أقربائه يهنئونه. وقد علته علامات الفخر حين شاهد “هاشتاج” باسمه (تقاعد جندي حرب عظيم).

لقد كان مقاتلاً كبيرًا، استطاع أن يزحف بالجنود إلى داخل البلاد المجاورة أثناء الحرب وقتل كل من صادفه رميًا بالرصاص أو المدافع، وكم زرع من الألغام التي بقيت تمارس حربها من تحت الأرض حتى بعد انتهاء الحرب بسنوات، فكلما داس عليها طفل راكضًا خلف كرة، أو داست عليها امرأة تحمل على رأسها سلة من الخضراوات ينفجر اللغم وتموت الضحية في الحال. جال بعينيه مرة أخرى متصفحًا هاتفه النقَّال فرأى “هاشتاج” ينعى الجرذ “ماغاوا”*، كان بأذنين طويلتين وزغب أسود يميل للاصفرار. فما أن وقعت عيناه على صورته حتى فزع، فهو يشبه الجرذ الذي رآه في حلمه تمامًا، كان العالم ينعى الجرذ “ماغاوا” بأسف شديد؛ لقيامه بخدمة قدمها للإنسانية، فبفضله تم تفكيك الكثير من الألغام التي بقيت في الأرض بعد الحرب، وبذلك يكون قد أنقذ حياة مئات البشر من الموت في كمبوديا والعيش دون خوف، حيث استطاع أن يفكك أكثر من 100 لغم أرضي، وكان أول جرذ يحصل على الميدالية الذهبية من الجمعية المعنية بالحيوان. تصفد جبين الجندي عرقًا وشعر لأول مرة بضعة وحقارة في نفسه، وفكر حينها لأول مرة: ماذا لو التقيت بمن قتلتهم في ظروف مختلفة في مكان آخر غير تلك البلاد؟ ربما صافحتهم، أو شربت معهم القهوة المرة وتناولنا حلاوة الحديث، وبادلتهم أخبار البلدان الأخرى.

حاول أن يبدد تلك الفكرة التي اخترقت ليله المظلم وزادته ظلامًا، فتناول هاتفه النقَّال مجددًا محاولاً إلهاء فكره بشيء ما، وتصفح مواقع التواصل، لكنّ إحساسًا ما بدا يجتاحه كأنما جرذ ما يقرض جسمه، ويأكله، إنه “ماغاوا” بعينه، ذلك المخلوق الذي تأثر بموته العالم. راح الجندي يتمتم في نفسه: يا ترى هل حينما أموت هل ستبكيني الناس أم سيلعنونني؟! لقد قتلت الكثير من الرجال وزرعت مئات الألغام. كثيرون ينتظرون موتي حتى أُبعث إلى جهنم كما يتمنون، هل سأُبعث إلى جهنم فعلاً؟! لماذا؟! فأنا جندي حرب! قاتلت من أجل طموحات كبيرة أغلبها ليست لي.

أيها الجرذ “ماغاوا” أتراك تشعر بالإنسانية أكثر مني؟! ففي الوقت الذي أزرع فيه الألغام وأقتل الرجال والأطفال والنساء، أنت تشارك في إنقاذ البشر وإرساء السلام والأمان لهم. لماذا تشعرني بحقارة نفسي، أنت تقلدت ميدالية ذهبية وأنا قُلدت ميدالية أيضًا.

وما انفك الجرذ يزوره كل ليلة في حلمه، قارضًا بَزّته تارة وجسده تارة أخرى. سمعته زوجته ذات مرة وهو يصرخ فأفاقت وجلةً وخائفةً ورأته يجثو على ركبتيه فوق أرض الغرفة وهو عارٍ، ويصرخ: أنقذوني من الجرذ، لقد أكل بَزّتي والآن سيأكلني. بقي الجندي على هذا الحال، وقد احتارت زوجته في أمره، وما هي إلا بضعة أيام حتى صار الجندي يهلوس ويتحدث كثيرًا بكلام غير مفهوم، وقد ملأ غرفته بمصائد الفئران والسم واللاصق. قال لها الجندي ذات يوم: مصيدة الفئران أحق بي من “ماغاوا”، وقال لها أيضًا: “ماغاوا” سيطعمني السم بدلاً منه. خافت المرأة على زوجها من أن يتناول السم على حين غفلة منها، فصارت ترفع السم من الأرض عندما يخلد زوجها للنوم، لكنه صار يوبخها كلما رآها ترفع السم الموضوع في طعام، قال لها: أنت تتآمرين مع “ماغاوا” ضدي.
ارتعدت المرأة من تصرفات زوجها وصارت تخاف على نفسها من أن يخنقها وهي نائمة بجانبه.

كثرت كوابيسه وصراخه في الليل، حتى دخل في ذلك اليوم عليهما رجلان بلباسهما الأبيض واقتادا الجندي إلى حيث السيارة الواقفة بالخارج وهو يقول: ماذا تريدان مني؟ أنا بخير، هل ستقتلاني؟ أعرف ذلك، كلكم تتآمرون ضدي وتتمنون موتي، وأشاح بنظره إلى زوجته وقال لها: حتى أنتِ مثلهم، ثم راح يصرخ في وجهي الرجلين: أنا جندي كبير وعليكما احترامي. قبل أن يخرجا قال أحد الرجلين لزوجة الجندي: لا تقلقي. في المستشفى سيتلقى الرعاية اللازمة، فهو في أيدٍ أمينة. وبكت الزوجة وأغلقا الباب خلفهما.

* ماغاوا: هو جرذ، أمضى سنوات في اكتشاف الألغام الأرضية في الريف الكمبودي، نفق في 11 يناير 2022م عن عمر الثامنة.



error: المحتوي محمي