السُّني والشّيعية
من الأسر التي كانت تسكن في عمارتنا، أسرة لفتت أنظارنا جميعاً بما كانت عليه من انسجام تام بين أفرادها، إذ لم نسمع لهم يوماً ما صوتاً ينبئ عن خلاف بين الزوج وزوجته، أو بين أفراد الأسرة وعائلها، مع أننا عرفنا فيما بعد أنّ الزوجة شيعية ملتزمة محافظة حريصة على تديّن أولادها، والزوج سنّي المذهب، تتلألأ في عيونهما أمارات الحبّ والمودّة والانسجام، وهما من بغداد العراق، وقد هاجرا من بلدهما إلى سورية.
كان الرجل وزوجته كريمين، فقد استضافنا في شقته في إحدى الليالي الأولى من شهر رمضان، حسبما أتذكر، كما أنّ الزوجة طبخت لنا طبخة لذيذاً جداً، حتى إنّني طلبت من الرجل أن يسأل زوجته لكتابة مقادير تلك الطبخة، فطبخناها بحسب ذلك الوصف وأكلناها لقمة سائغة هنيئة.
الوعي صمّام أمان
أقول:
ما أحسن أن يتفاهم الزوجان، وإن كان كلّ واحدٍ منهما يتعبّد بمذهب مختلف عن الآخر، فلا يعلّقان ديمومة واستقرار حياتهما على انتمائهما لمذهب واحد، وإن كان مذهبهما واحداً، فلن تكون سعادتهما وانسجامهما مرتبطة بضرورة رجوعهما في الأخذ بمسائل الحلال والحرام إلى مرجع واحدٍ بعينه.
فمتى ما كان سقف وعي الإنسان بحقيقة التديّن عالياً، كان ذلك سبيلاً إلى تقبّل الآخر – سواء في محيط الأسرة الواحدة أو على مستوى المجتمع الكبير – والعيش معه بسلام وأمان، مهما اختلفت وجهات النظر بينهما في شؤون الحياة أو في بعضها.
وإن غاب الوعي أو انخفضت درجته، بدأت تطفح على السّطح صراعات وخلافات بين الطرفين، كلّ واحدٍ يدّعي أنه الصواب وغيره الخطأ، ولا محالة أن تكون نتيجة ذلك الصراع، مأساوية تترك آثاراً سيئة على الفرد والمجتمع.
الحارس الطيّب
حارس العمارة التي كنّا نسكنها، اسمه أحمد، وهو سنّي المذهب، جلست معه ذات مرّة في غرفته الصغيرة جداً، جمعتنا معه أحاديث الأنس، طيّب القلب، ذو ثقافة متواضعة.
في مرّة من المرات قال لي في غرفته:
أنتم والله أحسن ناس عرفتهم في حياتي، تتعاملون مع الناس باللطف والابتسامة في ذهابكم وإيّابكم، أنتم في هيئتكم وفي لباسكم الأبيض كأنكم ملائكة.
ثم اغرورقت عيناه بالدّموع وهو ينظر إليَّ، وكأنّه يريد أن يبرهن لي صحّة قوله وصدق مشاعره تجاهنا.
ثم تكلّم عن قريته التي اسمها (روثة) وهي قرية سوريّة تتبع إداريًّا لمحافظة حلب.
وقد أبدى سروره الكبير فيما لو زرنا قريته، وأنه سيكون بخدمتنا في أيام وجودنا هناك.
فقلت له: اقتراحك جيّد، سوف أستشير جماعتي وأحثّهم على التشرّف بزيارتكم.
وافق جماعتنا على مقترح الحارس الطيّب، وسافرنا، ووصلنا إلى مدينة حلب بعد مسير أربع ساعات تقريباً في الحافلة، ثم ترجّلنا منها لنركب حافلة أخرى في طرف حلب، بما يقرب من مسير نصف ساعة، حتى وصلنا إلى القرية المذكورة.
ولما أعطيت السائق أجرة الحافلة، ابتسم في وجهي، قائلاً:
إنّ أخذ الأجرة من الضيوف الغرباء عيبٌ عندنا، توكّلوا على الله.
فلم يأخذ الأجرة، وكانت هذه أول صفة جميلة في أهالي القرى الريفية.
بين شخصيتين
قرية روثة الريفية من القرى البعيدة عن ضجيج المدن، وهناك تعرّفنا على والدَي الحارس أحمد وجدّه وأصدقاءه، وكانت زيارة مميّزة بكلّ تفاصيلها.
قرية روثة لا يزيد عدد سكّانها عن مئتي شخص، كلّهم طيّبون وذوو خلق رفيع، إلّا واحداً منهم، هو شيخهم ومتديّنهم، فلم يكن على وفاقٍ معنا، رغم أننا أحببناه.
وهذه نقطة مهمّة جديرة بالتأمل والانتباه، فالإسلام دين شامل يضم جميع أطياف وتيّارات الشعوب، وإن كان ثمّة نعرات طائفية هنا وهناك، فهذا من شرذمة لا يقرّ لهم قرار عندما يرون جميع الناس يعيشون متفاهمين منسجمين، فليس العيب في الإسلام، وإنّما في أولئك الذين يدّعون التديّن، ويمارسون في الوقت نفسه سلوكاً أبعد ما يكون عن نظرية الإسلام وهديه وتشريعاته التي تضمن كرامة وحقوق الجميع، وفرق بين النظرية والتطبيق.
إبراهيم
وممن التقيناه في تلك القرية الوادعة، إبراهيم، صديق أحمد، هذا شاب وديع أحبّني وأحببته، حتى إنّ يوم الوداع اغرورقت عيناه لما صافحته بحرارة يوم عودتنا إلى مقرّ إقامتنا في السّيدة، حيث استغرقنا خمس ساعات للوصول.
بعد ساعة من وصولنا فوجئنا بوصول إبراهيم إلينا، حيث لم يتحمّل فراقنا، فسكن في غرفتي، وبعد ثلاثة أيام اضطرّ إلى السّفر، فكانت هذه الذكريات الجميلة مطبوعة في ذاكرتي.
المدّعي
كانت يسكن منطقة السيدة زينب (ع) جمع كثير من الناس المنتمين إلى جماعات وتيّارات مختلفة، فهناك جماعة السيّد الخوئي، وجماعة السيّد السيستاني، وجماعة السيّد الروحاني، وجماعة الشيخ الإحقاقي، وغيرهم.
واحدٌ ممن لا ننساهم، ذلك الرجل العراقي، الذي أجاز لنفسه دخول شقق الزوار فجأة أيام عطل الصيف، ويدعو إلى نفسه ومرجعيته وجمع أموال الخمس، وكان من الواضح عليه، من نبرة صوته وطريقة كلامه أنه ليس مجتهداً.
فقد كان يتلصّص على شقق الزوار أثناء الليل، فرأى – ذات ليلة – شقة أمام مدخلها كثير من الأحذية، فطرق بابها، ودخل فيها، فإذا بها شقة طلاب العلم في حيّ السيدة زينب (ع)، فارتبك من شدّة الإحراج، وكانت لنا فرصة سانحة نسأله بعض المسائل الفقهية اختباراً له، فاكتشفنا من خلال إجاباته أنه بسيط العلم والثقافة.
حادثتان غريبتان
مرجع آخر معروف لتيّار يميل إلى الغلوّ، حين وصل إلى حيّ السيّدة زينب (ع)، وبعد يوم من وصوله بدأ في استقبال الزوار في مجلسه العامر، فرأينا صفًّا من الناس يقرب من أربعون شخصًا من داخل المجلسإلى خارجه، اصطفّوا وكلّهم يحملون قوارير الماء المملوءة؛ ليقرأ عليها بعض الأوراد والأذكار، على أمل الشفاء من أمراضهم وقضاء حاجاتهم .. لا تعليق.
وأمّا الأغرب من هذه الحادثة هو ما كان يوم زيارتنا لمجلس المرجع الراحل السيد فضل الله في طرف منطقة السيدة زينب (ع) وكانت أيام الفاطمية، إذا بالخطيب (الشيخ فيصل الكاظمي) يقرأ مصيبة السيّدة الزهراء (ع) بما تعارف عليه جميع الخطباء، والناس كلّهم في بكاء ونحيب، والسيّد المرجع الذي كان يُسند وجهه إلى راحة يده بالبكاء … لا تعليق.