أراه مِن الطبيعي أنْ يختلف ويتباين نمط العادات، والتقاليد والأعراف، عند أهم المُمارسات الحيوية اليومية لأنشطة مختلف الشعوب؛ ومن تلك العادات، ولُباب المورُوثات الممارسة السائدة، تنوّع وتعدّد سائر عَادات الأكل، وربّما أوقات، وطرائق، وأساليب تناول الطعام الراتب وإعداده، خاصة في محطّات الأزمان الغابرة، حيت تندر وسائل النقل الآمنة؛ وتشحّ وسائل التواصل المَكاني تِباعًا، بتعدّد ضُمَيمَة باقة أنماطها السائدة المعروفة، في حاضر وقتنا المعاصر…. ! وممّا هو جَدير بالذّكر، كنت مُؤخرًا، أتصفّح وأقرأ بتمعّن في سطور مُعجم “أمثال العرب وتفسيرها” الإلكتروني، ووَقفت مُتأمّلًا مُتدبّرًا، عِند جَوهر المثل المحفّز القائل: (خيرُ الغَداءِ بواكِرُه، وخيرُ العَشاءِ بواصِرُه)*… بمعنى أنْ يؤكل طعام العَشاء، والعين تُبصِره، قبل هَجمة الظلام. هذا، ولم أمرّ بهذا المثل العربي الصحي الموروث مُرور الكرام كالعادة، بل رُحت أتأمّل جَوانبه ومَراميه المقنّنة، وأتدبّر أسَاسَات قواعده الصحية؛ لأَستجلي نمطَ ثقافةٍ تغذويّةٍ صحيةٍ ممارسةٍ؛ ولَعلّي أظفر بخُلاصة منطقية مُماثلة مُثلى، تحفظ للصحّة العامة ذُروة سَلامتها، وللمزاج أجمل رَونقه، وللذهن المتيقظ قُوة نشاطه، وللشهية الحاضرة، حَقّها الأكمل من الإقبال الذاتي؛ لتناول مَا لذّ وطاب مِن الأكل الصحي الحلال… عملًا بسُنّة وسِيرة المصطفى، عليه وعلى آله وصَحبه أَتم الصلاة، وأكمل التسليم: (مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ)*… ومن هُنا انطلقت قَدح أولى شرَارة هذه الخاطرة المتواضِعة، علّها تلقى نارًا حَاميةً، ونَفْسًا مُتبصّرةً، تحظيان “بطهي وانضاج” وتنميق مَصفوفة سُطورها المتواضعة؛ وتقديم أزكى وأحلى الزاد المستساغ وجبة شهية، تنعَم بذوقها الماتِع عَينُ الناظر؛ وينشَط بمُحتواها الجاذِب ذِهنُ القارئ؛ وقد اجتهدت بصدقِ النيةِ، أن أقدّمها في أطباقٍ عصريةٍ، وعلى مائدةٍ مُمتدّة، من حثيث هَبّاتٍ من مَذاقاتٍ ساخنةٍ، من ذائع هِبَات العولمة السائدة…!
وعودًا حَميدًا إلى تأمّل مَنثور ومَنشور بؤرة أطياف شُعاع المثل العربي الصحّي الصادح أعلّاه، يُلاحَظ زفّة الحثّ الصريح على التبكِير في ساعة تناول وجبة الغداء في حُلول وقتها المحدّد، ولعلّه من المناسب أن يكون في ساعةٍ من وَسط النهار، عُرفًا؛ ليكون اختيار التوقيت ذاتِه جسرًا رابطًا، بين وَجبتي الإِفطار صباحًا، والعَشاء مساءً، في خِتام دورة النهار؛ وفي ساعةٍ محدّدةٍ ما قبل، أو ما لا يتعدّى وقتها أول حُمرةِ شفقِ الغروبِ افتراضًا؛ حتى يتنسنّى للمعدة المُستقبلة للطعام، هَضمه وتَمثيله؛ لتستريح من أداء دَيدن مهامّها “البيلوجية” الدورية، قبل موعد النوم؛ وتُريح بكَفاءة وجَدارة، إتمام مهام أنزيماتها الهاضمة؛ وترسِل برفقٍ متأنٍ، مَوجاتٍ حانيةٍ، في بطنّ مُغلّفٍ مُغدقٍ من “هَدايا وعَطايا” مَانحة سَابغة، لساعات مسترخِية مُثلى، من أحلى وأمتع ساعات، وأحلام النوم الهادئ المنتظرَة، راحةً واستجمامًا… هذا وقد لفت انتباهي العرف الغذائي السائد في أمريكا، قبيل منتصف العقد الثامن، من القرن الميلادي المنصرم… وقتها، كُنت طالبًا أدرس في جامعة “نوث تكساس” وقد جرّبت الانضمام إلى برنامج “كافتيريا” الجامعة لمدّة فصلٍ دراسيٍ كاملٍ، بنظام- الثلاث الوَجبات اليومية الرئيسة- وقد لَفت انتباهي بشدّة، البرنامج الزمني المُعَد مُسبّقًا لتناول الوجبات الثلاث؛ حيت يُقفَل مَوعد الإِفطار بعد الثامنة صباحًا؛ وموعد الغَداء، يبدأ من الساعة الحادية عشرة، حتى الواحدة ظهرًا؛ ليبدأ موعد العَشاء، من الخامسة مَساءً، حتى نهاية السادسة والنصف… وبعد حضور الطالب المشترِك بعد نهاية السادسة والنصف مساءً، يلاحِظ أن بوابة الكافتيريا قد أُقْفِلت تمامًا… !
وفِي ذَلك الحِين، كُنت أتساءل وأتتبّع المَغزى والجَدوى الكامنين من جَدولة مواعيد برنامج الكافتيريا، على ذلك النحو الصارم؛ وعَرفت لاحقًا، أنّ خُطة برنامج النظام الغذائي الآنفِ الذكرِ، قد بُنيت على أساس العُرف الاجتماعي السائد آنذاك… وعَرفت أيضًا، أنّ المنظور الصحي المناسب لنشاط اليوم الدراسي للطالب النشِط، قد تدخّل بحِكمةٍ وحِنكةٍ، في تنظيم وترتيب مَواعيد الوجبات الثلاث اليومية؛ وأدركت وقتئذٍ، بأنّ توقيت ذلك النمط الزمني الحازم للوجبات اليومية، مُناسب ومُلائم جدًا لخطة البرنامج الغذائي للطلاب الأَفْتَاء؛ بما يحويه- بين زخرفة دفتيه- المتّسِقتّين من تعادل التنظيم المُتناسق؛ وتماثل الاحتياج المُتوازن للجسم السليم؛ لتناول الوجبات الغذائية المنتظمة المدروسة؛ لتواكب حركة، ونشاط، ولياقة الطالب الفتِي المتنقّل ما بين مَحاطّ مباني الحرم الجامعي المتباعدة؛ ولعلّ ذلك البرنامج العُرفي المتّبع يُسهم إيجابيًا في برمجة تنبيه مخزون العقل الباطن، بالتقيّد الزمني بالمواعيد المدروسة؛ الآنفة الذكر؛ لتناول الوجبات الثلاث اليومية بانتظامٍ، وبيسرٍ وسهولةٍ…
ذلك النسق الغربي المتبع، يتطابق مع ما يؤكدّه، وينصح به، ويشدّد عليه خُبراء واختصاصي التغذية المعاصرين، خاصة التبكير في الالتزام بتناول وجبة الفَطور الأساسية، في وقتها، وعدَم إهمالِها؛ وكذلك تناول وجبة العَشاء المتوازنة، وعدم تأخيرِها إلى قبيل وقت ساعة النوم المعتادة؛ وينصحون مِرارًا، بتناول وجبة خفيفة، بسعرات حَرارية معتدلة متوازنة، قبل ساعتين، إلى ثلاث ساعات، على الأقل قبل الخُلود إلى مخدع النوم.
ومما أذكره جيدًا، أني تابعت برنامجًا حِواريًا، لباحثة في علم التغذية على قناة “الإم بي سي” الفضائية قبل خمس سنوات تقريبا… وقتها كُنت في أول سَفرة سَياحية إلى ألمانيا، حيث تحدثت الخبيرة بتوسعٍ، في تلك الأمسية، عن جوانب أُطروحتها العلمية “المتميّزة” وسمّتها بمصطلح “التغذية الحَدَسِيّة” وتقصد بها: أن الشخص يُفترض أنْ يتّبع نظامًا غِذائيًا مُحدّدًا، فلا يأكل عَشوائيًا، بل لابُدّ له أنْ يصيخ باهتمام إلى “نِداء” حُزمةٍ من الرسائل “الفسيولوجية” الذاتية، تنبِؤُه وتشعِرُه بمسيس الحاجةِ إلى تناول وجبة الطعام… وحِينها تسألت عَجبًا… في انغماس الخبيرة المحترمة في طَرح وشَرح، وتَوضيح نظريتها التغذوية “المبتكرة” على الملأ، وهي- تسرَح وتمرَح- وتعصِف بتراشقٍ نشطٍ بأحدثِ المصطلحات العلمية، وكأنّها أستحدثت أمرًا، لم يسبق له أن خَطَر على قلبِ بشرٍ… عِنديذ، لم أتمالك نفسي، فنظرت عن يَميني وعن شِمالي؛ وأعربت، بتلقائية مُنطلقة كالسهم المارق، إلى (زَوجتي ووَلدي) الحاضرين… ما قِيمة ومَكانة هذه النظرية الهامشية الهشّة أمام المقولة المأثورة الصحية التغذوية، المرويّة عن سَيد الخلق، نبينا الكريم، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة، وأتم التسليم، الذي لَا يَنطق عن الهوى: (نحنُ قومٌ لَا نَأكُلُ حَتى نَجُوعَ، وإذَا أَكَلْنَا لَا نَشْبَع)*.
فما أجلّ، وأنبل؛ وأسمى، وأنمى؛ وأتمّ وأكمل سُنّة وسِيرَة خاتم الأنبياء، وسيّد الخلق والمُرسلين، الصادق الأمِين، التي تمرّ علينا؛ وتُسعدنا ذِكرى إطلالة وِلادتة المَيمونة المَحمودة، وقد اكتست وتزيّنت سائر بلدان المعمورة بمليارات المسلمين، عزًا، وكرامةً، وفخرًا، وسُؤدُدًا؛ وعَلا صَوت الحقّ، بالصيحة المدوّية المُتعاظِمة: (الله أكبر… ) فيا لها من عبارة صادحة بازغة، تضجّ وتعجّ- بإعلانِها الحقّ الهاتِف- مَضاجع النائمين؛ وتُوقِظ وتُنبّه بسماعِها المُجَلجِل، أَفئدة غَفلة الغافلين؛ لتيوجّهوا بِصحوةٍ مُتوسّمةٍ- بالخير والبركة- بأوامر الطاعة الإلهية؛ طالبين شآبيب المغفرة والرحمة؛ بمِلئ يُسر رَوحانية الوِجدان؛ ورِيّ شَفافية سَماحة القلوب المُطمئنّة، المسبّحة بذكر ربّها؛ وتُعانقهم نَسائمُها، مُلبّيةً برقيق فيض هَمس الحناجِر الناطقة بذكر عَظَمةَ وتَجِلّةِ الواحِد الأحَد، الفَرد الصمَد… ( الَّذِينَ آمَنُوا وتَطْمَئِّن قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذكْرِ اللهِ تَطْمّئِنُّ القُلُوبُ).
*معجم أمثال العرب وتفسيرها الإلكتروني
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة ص 95.
* المصدر نفسه ص 95.
* سورة الرعد- آية 28.