في هذا الأسبوع كان لزامًا علي أن أذهب لمعرض الكتاب في الرياض، لا سيما أن المسافة الزمنية التي تفصل عملي عنه لا تتجاوز العشر دقائق، ومع أنني أُدرك أن نسبة شرائي لأي كتاب لا تتجاوز نسبة فوز قطر بكأس العالم، إلا أن الحقيقة التي كنت أضمرها هي أن هذا الذهاب ليس إلا لكي (أتخايل عليهم) مثلما كانت أمي العودة تقولها لي دائمًا ولأن الجو العام في معرض الكتاب هو جو مبهج يبعث على السرور.
أظن: أنّ شخصًا يتأمل في هاتفه الجوال أثناء قراءة النعي، وربما يقهقه مع صديقه بشكل يراه الجميع، هو غالبًا ليس من الطبقة التي تصنف بأنها متدنية ثقافيًا، كما أن طفلًا يحول الحسينية أثناء القراءة إلى ديزني لاند يُحتمل أن يكون شعر أبيه فيه (شباصة – بكلة) ومن النادر أن يلبس وزارًا ويطبخ عيش الحسين، والحال هو الحال في أشعار المثقفين التي غالبًا ما تكون مليئة بكلمات كـ (…………)، وهم حينما يسمعون:
إذا ما دهاك الدهر بالأمر العطب…أقسم على الله بعبد المطلب
فإنهم عادة (تلوع چبودهم)، لأن شعرًا يخلو من التصوير ………. يجعلهم يشمئزون، كل ذلك لماذا؟ الأمر كما أظن يعود لسببين: الأول هو أن البناء الثقافي لدى نسبة قد لا تكون قليلة من المثقفين قام على هامشية الفقه والعقائد والدين عمومًا بصفته موروثًا متخلفًا أو لا يمثل منهج حياة، والثاني أن النتاج الثقافي الغربي والشرقي هو تجارب إنسانية بديعة برأيهم، منحت الإنسان معايير عالية، كانت سببًا كما يظنون في تقدم بلدانهم، إذن، فتحول الغربي والشرقي لقدوة -وإن لم يعلن- جعل نسبة من أبناء مجتمعنا تنظر لمؤلفاتهم الثقافية على أن كثيرًا مما فيها هي حقائق ومسلمات لا تقبل الجدل، هي فنون رائعة، هي أخلاقيات بديعة، هي فكر نير يستحق أن يقتدى به، لست هنا في معرض نقد الأهلية الذهنية لدى نسبة من المثقفين، القضية بعيدة كل البعد عن هذا المعنى، إنها باختصار قضية جملة من المعلومات المغلوطة التي تكون بأجمعها مقدمات للنتائج التي نراها اليوم من سلوكيات لدى المثقفين.
لتبسيط المعنى، أقول: حينما يأتي أنشتاين من ألمانيا إلى القلعة مثلًا ويسأل عن بيت علي باقي فيخبره شخص أنه في (أبو معن)، هنا أنشتاين حينما يذهب لـ(أبو معن) فليس لأنه غبي، ولكنه تعرض للكذب، الحال هو الحال في نيوتن فلو جاء من بريطانيا إلى حي المدارس مثلًا وسأل عن حسينية النهاش وأجابه شخص بأنها في الملاحة، هنا سيذهب نيوتن إلى الملاحة. إذن، فالمثقف حتى لو كان أذكى خلق الله وتم الكذب عليه وزراعة جملة من المقدمات المغلوطة في ذهنه فستكون النتيجة هي أن السيستاني لا يختلف في نظره عن ماستر فاينانس، فكلاهما متخصصان في علمين مختلفين، فمثلما نشتم ماستر الفاينانس أحيانًا ونسخر منه نشتم السيستاني كذلك ونسخر منه.
أظن: أن نسبة من المثقفين شوهوا الثقافة وجعلوها غالبًا مرتبطة بأشخاص تجيد أكثر ما تجيد لغة التعالي، تلك اللغة التي تعني أن أبعد آمالهم هو الدنيا، وحينما يتحدث المتحدث عن الدين بصفته محددًا لأحكام الأفعال والتروك فإن نسبة منهم تنزل شتى الأوصاف القبيحة في الدين ورموزه، إنهم في الغالب يقبلون مظاهرات العراة وحفل الطماطم وقدسية بوذا لدى تابعيه، ولكنهم لا يقبلون أدنى درجات الاختلاف مع بني جلدتهم، إنهم الصورة الكربونية لجملة من الأحزاب السياسية التي تتحدث عن وردية الثورة والحقوق إبان فترة النضال، وحينما يصلون يصبحون أشد وأقسى من سابقيهم، هذا يعني أن مصالح العباد لو كانت بأيديهم لظلوا مختلفين معهم تمامًا من الوجود.
كنت أتمنى أن يكون التشييع أفضل مما كان إلا أنه مع الأسف على عكس المتوقع، صلى علي الشيخ ووضعت في قبري، هناك جاءني ملكان وسألاني بعد المعرفة عن الصلاة، فأجبتهم بأن بوتن يسطر أروع الملاحم البطولية ضد الأوكرانيين، فسألاني مرة أخرى عن الصلاة فأجبتهم بأن الأميرة إليزابيث وجهت خطابًا عظيمًا لأطفال بريطانيا الذين تم إجلاؤهم لاسكتلندا بعد هجوم هتلر العنيف عليهم، سألاني مرة ثالثة عن الصلاة فقلت لهم لا أعرف، فقالوا لي ألم يكن سيد صباح شبر يشرح الرسالة العملية ليل نهار، حقويش ما تعلمت، قلت لهم ظننت أن حروب روسيا وبريطانيا أهم، ظننت أن روايات تولوستوي ودوستويفسكي وفيكتور هوجو أكثر نفعًا منها، هكذا -إذن- وصل عمري الخمسين والستين والسبعين، ولم أُقم لله صلاة واحدة، ولكنني مثقف، إنني أفهم كل شيء إلا الصلاة الصحيحة والمقبولة، أفهم في التاريخ والجغرافيا والشرق والغرب والسماء والأرض ولكنني لا أعرف الصلاة، لا أعرف تكبيرة الإحرام، لا أعرف قراءة الفاتحة على النهج العربي الصحيح، لا أعرف الركوع والسجود والأذكار على النهج الصحيح، لأنني باختصار كنت أنظر إليها على أنها مجموعة من الترهات والخرابيط، هذا أنا باختصار.