الرموزُ الثقافيةُ المتصارِعة

الهربُ من التأثيرات الجانبية للنماذجِ والرموز الإنسانية صعبٌ للغاية، فحينَ يأتي الصالحُ، يترافقُ معه الطالحُ، ولا يمكن الفصل بينهما؛ إذ الإنسانُ كائنٌ مخلوقٌ من “نِسَبٍ” متفاوتة، بعضُها يبرعُ فيها، وأخرى لا يفقهُ منها شيئاً، ومن المحالِ وصولُه درجةَ الكمال، باستثناء شخصيات معيَّنة؛ كالملائكةِ في مجال الخير، والشياطينِ في مجال الشر.

عالمُ البشر؛ عالمُ الاختلافِ والتنوُّع، ومع الاختلافِ والتنوُّع تبرزُ الصراعات، وتنكشفُ التناقضاتُ المسيِّرة للبشرَ والمجتمعاتِ، فالفردُ ربما اجتمعت فيه صفتانِ أو أكثرَ؛ كالكرمِ والزهدِ والقناعَة، التي هي صفاتٌ لا تتفق مع الشَّره والبخلِ والطَّمع، إذ أنها مناقضةٌ لها، فكلما اتسعت الهُوَّة بين الصفات؛ صعُب اجتماعها في ذات الشخص.

ثمَّة نماذج كـ”حاتم الطائي” مشهورةٌ بالبذل والعطاءِ والكرم، وكـ”عنترة العبسي” مشهورةٌ بالشجاعة والنجدة والإقدام، وهي تُضاد نماذِجَ مثلِ “أشعب” الشَّره والبخيلِ والجبان، أو “جحا” الحريص على المال والطامعِ دوماً في المزيد، مما يؤكِّد أن الصفات النقِيضَة، لا تجتمع في ذات الشخص، بل في أشخاص متفرقين.

الرموز والنماذج الثقافية؛ تؤثرُ في وعي الفرد ولاوعيه، فالإنسان بوعيه يأخذ ما يناسبُ تكوِينه النفسيَّ والاجتماعيَّ، رافضاً كل ما لا يتلاءم معه، غيرَ مُدركٍ أن الصفاتِ التي يحاول الهرب منها؛ تظلُّ تُلاحقه، وتتغلغلُ في أعماقِه؛ نتيجةَ قراءاتِه، ومتابعته المستمرةِ لِنماذج ارتقت، وأصبحَت رموزاً في مجالها، وبات لها معجبون ومريدون، يهتمون بشؤونها، وينشرون ثقافتها.

الرموزُ المتعددة والمتناقِضة، والتي لا تتفقُ صِفاتها؛ تعيشُ داخل الثقافة، ويتم استقبالُ تأثيراتها؛ الإيجابية والسلبية، دون قُدرة على رفضِ التأثيرات، مهما بلغت شدَّتها؛ لكونها تصدرُ عن رموز متنوعة، لكلِّ واحد اتجاهٌ، وطريقةٌ في التعاملِ والسلوك، ومنهجٌ يسير عليه في الحياة، فطريقةُ “قرقوشَ” في القضاء، تختلف عن طريقةِ “البُهلول”، والاثنان يختلفان في طريقتهما عن القاضي الأموي الشهير “أبي ليلى”، صاحبُ كتاب “الفرائض”.

اختلافُ الرموز؛ يقودُ إلى صِراعها، فالنموذج الواحد بما يحويهِ من تناقضاتٍ؛ يُحدِثُ صراعاً خفيًّا داخل المرء، يظلُّ من الممكنِ احتواؤهُ والسيطرةُ عليه، أمَّا حين تتعدد النماذجُ، فإن الصراع يتجاوزُ الداخل إلى الخارج، ويتحوَّل إلى صراعاتٍ كلما تلاقت، أو حصلت مقارنةٌ بينها، فطريقةُ “حاتم” في بذل الأموال وإنفاقها، تختلف عن طريقةِ “أشعبَ”؛ الهادفة إلى المحافظةِ على الأموال والتمسك بها، فهذان النموذجان حينَ يلتقيان؛ يحدث صراعٌ خارجي حولهما، ما لم يُتوصَّل إلى اتفاقٍ، أو هدنة.

الثقافة تمتلئُ بقصصٍ وسردياتٍ متناقضة؛ مما يجعلها بيئة صالحة لزرعِ وتأسيسِ اختلافات تتطورُ لاحقاً؛ لتُصبح صِراعات بينِيَّة أو داخلية، إذ الصراعاتُ البينيَّة تحصل نتيجة الأخذ من نموذج، وترك آخر، بينما الصراعات الداخلية تحصل نتيجة الأخذ من نماذج متعددة؛ يناقض الواحدُ الآخر، وهنا لا يلزم أن تكون النماذج متعادية، فيكفي أن تمثِّل صفاتٍ مختلفة؛ كالشجاعة والكرم، لكن تطبيقها يتقاطعُ مع صفاتٍ أخرى؛ كالغِلظة والتبَاهِي، أو أن النمَاذج تمثِّل صفةً واحدةً، إنما بتطبيق متضادٍّ، كما في حالة “غاندي” المسالم في كفاحه لتحرير الهند من الاستعمار، عند مقارنته بحالة “تشي جيفارا” العنيف والمسلح في مقاومته للمحتلين، فهما وإن اتَّفقا في الهدف؛ إلا أنهما اختلفا في الطريقةِ.

صراع الرموز والنماذج، يُمارَس عبر الثَّقافة بعفوِية؛ فمن خِلاله يُتاح للفرد اختيار ما يُناسبه من صفاتٍ وسُلوكيات؛ تتلاءم مع حاله النفسِي، ووضعه الاجتماعِي، حيثُ الشجاعُ يجد نموذجه الذي يفتخر به، ويسعى للتشبُّه بسلوكياته، وكذلك الحال مع الكريم، والبخيل، والمنافق، والحاسد، والساعي إلى المجد، فجميعها ترِد داخلَ الثَّقافة، وعبر صَفحاتِ كُتبها، وفي حال عجزت ثقافة من الثقافات عن اختراع رموزها ونماذجها، فإن النتيجة ستكون؛ اتجاهَ أفرادها إلى الاقتراضِ من ثقافاتٍ أخرى، عبر عمليةٍ عفويةٍ تماماً.

التنوعاتُ والاختلافاتُ بين البشر تؤدي إلى إظهار تناقُضاتهم وصِراعاتهم، لهذا يلجأ الفرد إلى تعزيزِ اختلافه وتناقضه، عبر الاتكاءِ على نماذجه ورموزه، فيعمل على الاستشهادِ بها؛ للتدليل على صِدق موقفه، وصحَّة كلامه وسلوكه، وهو ما يعني المزيد من الصراع، الذي لا ينتهي إلا بانتصار طرفٍ، وهزيمة آخَر؛ حينئذٍ سيسود الهدوءُ لبعض الوقت، فإذا قوي موقفُ المهزوم؛ تجدَّد الصراع، وعاد أقوى من السابق.

دورةٌ تتجدَّد في علاقة المرء مع الرموزِ والنماذج، تنتهي بصراع محتدمٍ؛ من أجل الاستحواذِ على وعيه، ولاوعيه، حيث يظلُّ التاريخ يكرِّر نفسه، مانعاً المجتمعاتِ من التقدُّم والتطور؛ لتكون النتيجةُ مزيداً من الصراع، الذي لا يتوقف، ولا ينتهي.



error: المحتوي محمي