تتكشف لنا من خلال النصوص الروائية والتاريخية جوانب مشرقة من جوانب الألق ورفعة الشأن في شخصية الإمام الرضا (ع)، فإن التأمل والتدبر فيها بعد تحليل وتوضيح تلك المواقف يوقفنا عند المحطة الأخيرة وهي استخلاص الدروس واستلهام العبر، والتي يمكننا تحويلها إلى منهج أخلاقي نلتزم بمفرداته، من أجل صياغة شخصيات تتمتع بعوامل القوة والإنتاجية والتقدم في مضامير التعاملات الحياتية والعلاقات الاجتماعية، فما من أسلوب تربوي مجد ومثمر أفضل من التربية بالقدوة والتي يقدم من خلالها تلك الشخصيات التي كانت كلمتهم التزامًا وموقفًا والأحداث التي يتحركون فيها من حولهم تقدم ما يدعم التكامل النفسي والأخلاقي والاجتماعي.
من تلك النصوص الرائعة ما ورد عن تعامله (ع) مع الخدم والعمال في بيته، في زمن كان ينظر فيه للعبيد والجواري بعين الاستصغار والتعامل الدوني وتوجيه الإهانة والإساءة لأبسط هفوة أو زلة يقدم عليها، حيث كان يأتيه التوبيخ القاسي والتعنيف الذي ينطلق عليه كسهام مسمومة تنفذ في نفسه فتحطمها وتوقعها على أرض الإحساس بالدونية بلا سبب جناه، وإنما عبوديته كانت نتيجة أطماع بني الإنسان والعبث الذي مارسوه في علاقاتهم والتي سرعان ما تفضي إلى القضاء على الآخر وسبي الأطفال من أجل الخدمة والبقاء تحت نير العبودية.
ورد أن الإمام الرضا (ع) إذا خلا ونصبت مائدته أجلس معه على مائدته مماليكه حتى البواب والسائس). في موقف غير معهود في زمنه (ع) نجد المساواة التي أمر القرآن بها بين الناس بلا وضع تمييز يبنى على الوضع المالي أو العنصري ولا تفريق بين الحر والعبد، بل المائز الحقيقي هو تقوى الله تعالى وتجنب دائرة المحرمات والخطايا والتنافس في ميدان التقرب بالطاعات والتزام الأوامر الإلهية والحذر من الوقوع في حفر السيئات، وتطبيقًا لذلك نجد ذلك التحنن والرفق بالعبيد عند الإمام الرضا (ع) مما يزيح عنهم ألم الضعة والشعور بالدونية أمام من يتمتعون بالحرية، ويشعرهم بأن العبودية والحرية المصطنعة لا مجال للأخذ بها، فها هو (ع) يجمعهم على مائدة طعام واحدة والعبد يلتصق جسمه بالحر في ذلك البيت النوراني المقامة جدرانه على طاعة الله تعالى والتأليف بين قلوب الجميع.
وتنقل الأخبار عن علاقته بالله تعالى وتفريغ جزء مهم من أوقاته الشريفة من أجل ملازمة محراب العبادة والمناجاة، وما أعظمه من قائد ملهم يقربنا من الله تعالى وخصوصًا إذا أسدل الليل أستاره وصفت النفس من الأشغال وأضحت أكثر قابلية للمضي في مهمة التحلي بالصفات الحمية والشعور بالافتقار إلى الله تعالى، ويعتصر القلب ألمًا وندامة على تلك الأوقات التي غلفت الغفلة فكره وخارت قواه فقارب المعصية، فأين النجاة والمخلص للعباد المذنبين إلا بركوب مركب التائبين الراجعين لساحة الرحمة الإلهية، كما أن ميدان التزلف لا يكون بالأماني والميل القلبي لتحقيقه، بل هو ساحة الإرادة الصلبة في مواجهة التحديات والصعاب وصوت الشيطان الداعي للإجرام بحق النفس، فقد ورد أنه كان (ع) قليل النوم بالليل كثير السهر، يحيي أكثر لياليه من أولها إلى الصبح.
والتمرين على التوقف الوقتي وتربية النفس على الإمساك عن المحظورات ومحاسبة النفس والجوارح لئلا توقعه في المحذور، مما تتكفل به العبادات وأهمها ميدان الصوم والذي ينتقل به من الصوم بالمعنى الفقهي وهو الامتناع عن المفطرات منذ الفجر حتى المغرب الشرعي؛ ليتحول بعد تلك الدورة التدريبية إلى ساحة بقية الشهور متسلحًا بالورع عن المحارم والخشية من الله تعالى، ولذا ورد في سيرته (ع) أنه كثير الصيام فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، وهي الخميس من أول كل شهر وآخره، والأربعاء من وسط الشهر، ويقول عن ذلك صوم الدهر.
ومن تلك المصادر ما يذكر ما هو المؤكد على تحمل الإمام (ع) للمهمة الرسالية والتبليغية لانتشال الناس من ظلمات الأسر والأغلال للشهوات والخلل في بنية النفس الإنسانية، وذلك بالانعتاق من الأنانية والبحث عن المنافع الذاتية وإقامة العلاقات على أساسها ؛ لينطلق في ميدان العطاء ومد يد العون والمساعدة المادية للمحتاجين والعمل على بلسمة آلام حاجاتهم والتخفيف من وطأة الفقر الثقيلة، فقد ورد أنه كان (ع) كثير المعروف والصدقة في السر، وأكثر من ذلك يكون منه في الليالي المظلمة فمن زعم أنه رأى مثله في فضله فلا تصدقوه.