ولو تصفّحت أوراقي لتقرأها… رأَيت تأمّلاتي جُلّ أوراقي
1. عِندَما أتجوّل سَاعةً وسَط حَديقة غنّاء مُزهِرة أصَالةً، فإنِّي لَا أكاد أشعر بالوِحدة والعُزلة الند المُتخاذِلتين، في جوفٍ واحدٍ؛ وقد أعمَلت، وارسَلت، وأذِنت، بسماحةٍ ذاتية، لانطلاقة فَوج كَتيبةٍ نَشطةٍ، مِن صُفوف خِيرةِ أجنادٍ مُجنّدةٍ، مِن رُفقة الحَواس الحاضِرة؛ ومَا يكتنزونه في قَرار بُطون جِعابهم الزاخرة الحُبلى، مِن شتّى مّسرات، ونَعيم مَباهج هِبات الأيام الحُلوة المُعاشَة؛ لأجِدها واقعًا مَاثلًا في جَنبات الحَديقة المزهرة… فَها هُو مِثال هِمّة الجِد، وغِرار عَزيمة المُثابَرة، أرَاهُما، مَاثلين جِهارًا عِيانًا، يّتسابقان في مُهمّة العمل الدائب للنّحلة الرشيقة، مُتنقّلة مَشغولة بلَثم زَهرةٍ وَلهى مُرحّبةٍ؛ وبَعد أنْ تُسدِي مَراسِيم تودِيعها المُعتادة؛ لِتسثأذِن برفقٍ وتَحنانٍ، بلثمٍ حَانٍ مُماثلٍ لامتصاص رَحيق جَارتها المُنتظِرة قُدومها، بودٍ وامتنان.. ومَع مّشهدِ الحُسن الباهِر؛ ولَقطةِ الجَمال الآسِر؛ ومِنوالِ المُداعبة المُتكرّر، أُبصِرُ كفّ الوَداعَة صَامِدًا، وأَرَى بِساط البساطَة شَاخِصًا، في أحلَى مَعانيهما المُتناغمة المُندسّة، مَا بَين غضّ لَفائف نَضارة الأغصان المُزهِرة المُتدلّية، كأيدٍ نديةٍ مُمتدّةٍ لبدء واجب رَسميّات مُجاملةِ الترحِيب؛ واستِهلال مُلاطَفةِ عُرفِ المُصافَحة، بكُلّ اللّغات… وإنْ أعرضَ الضيفُ عَنهما بخُيلاءٍ ظاهرٍ، بادرَتهُ رِقّة الغُصون المزهرة تِباعًا، بنشرِ ونثرِ شَذا أريجها الفوّاح، على مُحيّا شخص الضيف المُحتفَى بقُدومِة الفيّاض، تشرِيفًا وإجلَالًا…
2. ولَعَلّ مِن أجمل أخيِلة، وأمتع أطياف اللحظات الحُلوة، رُبّما لا يَتكرر طَرزُها؛ ويندُر حُضورُها، جُملَةً وتَفصِيلًا؛ تمامًا مِثل تَغيّر “كِيمياء” ذَائقَة المِزاج؛ وتَعدّد “ذَخيرَة” ثَقافة ولَطافة الشخْوص الحاضِرة، في هُنيهةِ جُمعةِ الأُنس؛ وتَنوّع مَجالِس المُسامَرة… مِثل طبيعة “المدّ والجزر” المتناوبين، مَا دَامت الجاذبية المانِحة، تمدّهما بزَخمٍ فَاخرٍ، وعَطاءٍ وَافرٍ، مِن مًدّخَر حِساب مَصرِف العناية والرعاية المؤتَمن المُؤمَّن، مَدى الحياة..!
3. وعِندَ اللقاء الجامِع بعُموم ثُلّة الأصدقاء، مِن مُختلف الثقافات والجِنسيات، فإنَّ مَوجَات الحَديث الشادِية الوديّة تتناغَم وتتجانَس، في نَسقٍ مُتنامٍ مِن “نوتات” إيقاعِ العَزف الثنائي، أو الجماعي؛ لتملأ زَهو المَكان مِن واسع رُؤيةٍ فَيحاءٍ رَحبةٍ؛ تتّسع صَفحة رِقاعِها المَحكِيّة المَرويّة، إلى فَضاء لَحظاتِ المُواءمة؛ وتؤوب إلى عَلياء هُنيهاتِ التآلُف؛ وتتطلّع شَغفًا، إلى هَمسِ وَقفاتِ قِراءة سَيل الأفكار؛ وإعادة ترمِيم سَقْطِ مَا انثلَم وتهشَّم مِنها؛ للإبقاء على رِبقة نَضَارة المُواجهة المُباشرة؛ وإدَامةِ فن التواصُل اللّفظي النشِط؛ واستمرارِ رَبط تَصاعُد مَوجة التمازُج الثقافي؛ ومِثلها دَمج ومَشج، تزاوج رَيع خُلاصة الأفكار المُتباينة، في جَوف بَوتقة، تُعطِي إضاءة ذاتية؛ وتُسدِي دِفئًا ضَافِيًا مُتزامِنين… وهُنالك تزهُو مُتعة اللقاء العطِر؛ ويَقوى فَحوى الحديث النضِر؛ وتُدعّم مَوجة الدفء، مِن جَديد، في تنايا “أتيكيت” اللقاء المُتصدّر؛ لِيكون حَجر أساسٍ ثابتةٍ، لسِلسِلةٍ مُترابطةٍ مِن تَالي ومُستقبلِ اللقاءات القادِمة…!
4. وإنَّهُ مِن دَواعي الحِكمة، ونَباهَة المِصداقيّة القائمتين، في غَمرةِ وزَحمةِ تجاذُب الحديث الودي، بين شُخُوصِنا، وأطراف الأصدقاء والمعارف، يَجدر بنا لِزامًا، أَنْ نوثّق ونعزّز، بوعي وانتباه، خُلاصَات أحكامِنا الفِكريّة، وأترابها الذوقِيّة، بأدلّةٍ وشواهدَ مَحسوسَة ومّلموسة؛ ونُسديها طَوعًا ويُسرًا بصِلَةٍ، في حَاضِر مُقتبلِ ناصِيةِ العقل الواعي، لنُظرائنا مِن ثُلة الأصحابِ الأمَاجِد، ومَعارِفنا الكرَام؛ لنزيد نغمةَ الحديث المُتصدّرة جَذبًا ومِصداقيةً؛ ونضيف، بعِنايةٍ ودِرايةٍ، إلى عُمق مُحتواه الفاخِر، زخمًا زاحفًا مِن فائق ذُروَة المُتعة، ورَائق لَذّة الانسجَام، في فُسحَة وقت جَامع وَاحد.
5. ومِمَّا يُتمّم مُتعة اللقاء الودي القصير؛ ويُضاعِف شُخُوصَه الماتِعة، هو أَنْ نُدارِي ونُراعِي- بوعي وإدراك- ذاتيّين راحَة ومساحَة دقائق اللّقاء الساخِن، بالحُضور الذهني المُواكِب المأمُول؛ ونقَدحِ أَولويّات وفَنيّات التحدّث الجاذب مَع جَناب الآخرين، بمزيدٍ مِن الدعم المُكمِّل، غير اللّفظي؛ بُغيةً مَرجُوةً مَأمُولةً، باستحضَار فائق سُمو الارتقاء المعنوي؛ واستمطَار ورَائق أجود اللحظات الحَميمَة المُؤنِسة؛ وإلباسِهما حُلّة قشِيبة، تَندَى وتخضَلّ بحُسنِهما وأناقتِهما جَلسة الحديث المُبهجَة، قلبًا وقالبًا.
6. ولِلحَدَيثِ عَن قَواعِد، وفُنون، وأَتِيكِيت- الخِطاب والمُخاطَبة- يَتعرّف السوَاد مِن الناس، مِن خِلال إجَادةِ وحُسنِ استخدامها، على ثَقافة الفرد، وسَمَاحَة خُلُقه، ومَنزِلَتِه الاجتماعية؛ ولاضَير مِن الإلمام والمعرفة بفُنون وأتيكيت الثقافات الأُخرى، في إدارة فن الحديث… تلك الاحاطة والاحتواء المُستضافَين، يُعدان رِدءًا مُساندًا للتحدّث بلُغة “المُحاوِر” أحد أطراف الحديث… ومِن أوَّلِيّات قَواعد الحديث الراقي، يَتصدّر وُرودًا عمليًا، إلى حُسن الاستماع إلى المتحدّث، حتى يُنهي كَلامه؛ ويَستوفِي إفادته؛ وعَدم مُلاحقته بالمُقاطعة البَلهاء؛ أو اتّهام مُفردات كَلامه بالسُّخف؛ أو مُقابلته بالاستهزاء، وإن كان خَصمًا لدودًا، يُحاول قَلب كِفافِ المَوازِين، وغَربلَة سَير الحقائق الدامِغة، لصَالح دَعوى باطِلة… ومِن جَعبة هذا الصدد أستحضر، بتأملٍ ورَوِيَّةٍ، حِكمة المَثلِ العَربي الرصِين: (اخْفِضْ صَوْتَكَ، وقَوِّ حُجَّتَكَ)*.
* موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة، ص 526