شمس الصيف كعادتها حارقة وتكفي لتجعلني حينما أقف بسيارتي بجانب مطعم السفرة المواجه لسوق الخميس في وضع حرج او لعله منهك، هذا لأن مئات الأمتار التي تفصلني عن مسجد الحجة الشيخ تكفي دائما لتصهر الحجر فكيف برجل لم يعتد أن يطفئ جهاز التبريد لحظة، هناك حينما أصل أصعد الى الدور الثاني في الميمنة في هذا المسجد الذي يبدو في كثير من الاحيان مكتظا بالمصلين، عزوز يقف مترقبا على باب المسجد، وحالما تلوح في الافق السيارة التي تقل الشيخ، يدخل الى المسجد مسرعا رافعا صوته: صلوا على محمد وال محمد، حينها يقف المسجد بأجمعه وتتجه الأعين الى الباب، وحالما تتهادى خطوات الشيخ المنهكة والممتلئة بالألم وهو يرفع يديه بالسلام على المصلين يمنة ويسرة، فإن ألما دفينا على حال الشيخ يسري في أجساد المصلين وهم يكررون الصلاة على محمد وال محمد بلا انقطاع، كنت أتأمل الشيخ وأنا في الطابق العلوي، ولأنني مصاب بداء احلام اليقظة فإنني من حيث لا أشعر اواجه هجوما شرسا من تخيلات شيطانية بوجود شخص غير الشيخ سيتقدم يوما من الأيام للصلاة في هذا المحراب، هكذا يتكرر الحزن والضيق الى أن اطرد تلك الكوابيس بأقوى ما استطيع، في عشرة الحسين عليه السلام أبدو مع مرور الأيام منهكا لا استطيع أن اذرف الدموع، فالدموع هي في حقيقتها مجهود عصبي هائل، مع ذلك فحينما يرقى الحجة الشيخ المنبر ويبدأ بالاسترجاع (انا لله وانا اليه راجعون) فإن شيئا في كيمياء جسدي يتغير، هناك كنت أرى الحسين ع مقطعا أمامي، هناك خرجت زينب ع لا تخرم مشيتها مشية امها الزهراء ع ونادت أخاها الحسين قف لي،
وضمها مولاي ضم الوداع****وقال هذا آخر الاجتماع****فشقت الجيب ومال القناع
وهناك وقف الحسين بعد ان انهكه العطش وثقل السلاح ليستريح:
دار العسكر على احسين يا حيف * ناس بالرماح أو ناس بالسيف
يشبه دورها على الليث المخيف * بياض العين بصبيها ايتدور
اوچب يستريح احسين ساعه * ضعف حيله أو ثگل بالسيف باعه
رن الحجر من وجهه ابشعاعه * أو دمه مثل ماي العين فجر
شال احسين ثوبه يمسح الدم * اولن سهم المحدد ناجع ابسم
ابقلبه وقع لا وخر أو جدم * هوى واظلم هواها والسما احمر
وهناك كان السجاد ع في الخيمة واذا بالأرض ترجف، وتغيرت السماء والبحار، ورفعت الملائكة رؤوسها من صوامع العبادة ووقف رسول الله ص واله يصيح وا ولداه، وهناك رُفع رأس الحسين على رمح طويل، كنت أشاهد الامام الحسين ع وهو يذبح امامي، كنت أراه، كان الحجة الشيخ يصرخ بأعلى صوته:
فتك العصفور بالصقر فيال العجب….ذبح الشمر حسينا غيرة الله اغضبي
حيدر آجرك الله بعالي الرتب…أدرك الأعداء فينا ثار بدر وحنين
كربلا لا زلت كربا وبلا…ما لقي عندك ال المصطفى
لا اعرف ولا أستطيع أن أفهم كيف لكلمات هذا المعظم أن تؤثر في قلب كقلبي، ومع أنه يتحدث باللهجة الدارجة الا أن سحرا لا أفهمه يشدني اليه، هناك سأسمع كلمات ك (چندس، كلابد، ماهست، بوتيرس، روزنة، شبلية) الا أن تأثيرها علي لا يضاهيه تأثير كل الكلام النحوي البليغ الممتزج بابيات تابط شرا أو قيس المجنون وأضرابهم، والذي أستمعه من الخطباء الكرام، لقد علمني أن أميز بين العلم والهراء، هكذا أظن ان في قلبي (سنسر) استطيع من خلاله معرفة (بياع الحچي) من العالم، لقد علمني الكثير الكثير من الدروس، علمني أن حرمة المؤمنين عظيمة، وأن التوفيق كل التوفيق في ان يمنحك الله سبحانه وتعالى القدرة على قضاء حاجاتهم، وحينما تفعل فاشكر الله كثيرا على ذلك، علمني الاقتداء ب ابن يقطين، وكرر كثيرا على مسمعي (مَالِ هَٰذَا ٱلْكِتَٰبِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّآ أَحْصَىٰهَا)، وأظنها كانت من أعظم الدروس الادارية التي تعلمتها في الهيومان ريسورز بل في كل شيء، هذا لأن أي مسؤول اتش آر ينبغي أن يحسن معاملة الموظفين وأن يقدر الليبر مثلما يقدر الجي ام ويعرف ان الله سيقتص منه لاي ظلم فعله، الحقيقة أن الحديث ذو شجون، اليوم محراب الشيخ خال منه، منبره خال منه، مجلسه كذلك، لقد أخذ مني الحنين وكثيرين من محبيه بالتاكيد مأخذا عظيما، هكذا جعلني ذلك ابحث عن حل لمئات من أشرطة الكاسيت التي عكفت على تسجيلها سنوات طويلة عل اذني بها تستعيد صوت الشيخ وكلماته، كان لدى الحاج المؤمن أبو ماجد الحل، هكذا كان للمسجل الذي اشتريته منه سببا في أن اعيد الاستماع لكلمات الشيخ، وكلما استمعتها عاودني الحنين والالم أكثر وأكثر لفقد هذا العلم العظيم ولعدم القدرة على رؤيته، هذا العالم الذي لا أشك أن البيت الذي رثى به المرجع العظيم السيد الخوئي قدس الله نفسه ينطبق عليه كذلك:
بابٌ لبابِ مدينةِ العلمِ الذي….من غيرهِ لا يُقبلُ الايتاءُ
حفظه الله وأطال في عمره ومتعنا بوجوده أعواما كثيرة في صحة وخير وسلام،،