أغنية الربيع

لم تبق إلا ساعة من النهار وتغرب الشمس، أخذتُ أعد كاميرتي وأتفقدها، ولكن ليس لالتقاط مشهد الغروب هذه المرة.. فبيوت القرية المتزاحمة على بعضها تحجب عني رؤية الشمس، فبعد ساعة سيدوي صوت تكسر الفخار معلنًا قدوم شهر الربيع، وستتصاعد أدخنة البخور من نوافذ البيوت خالعة السواد من على جدرانها بعد انقضاء شهري الأحزان على أهل بيت النبي المحرم وصفر..

كم كانت سعادتي غامرة، فحتى جدران غرفتي بدت أكثر إشراقة، وأوراقي ومنضدتي بدت لي كأنها تبتسم، كاميرتي أصبحت جاهزة الآن لالتقاط الصور وتقديمها في المعرض التراثي الذي سيقام في إبريل القادم، كل شهور السنة تثبت بالرؤية الشرعية للهلال إلا شهر ربيع الأول فإن النساء يتولين ذلك بتكسير الفخار عند عتبات المنازل، تذكرتُ والدتي التي اعتادت على كسر الفخار القديم والبالي وهي تغني بصوتها الجميل، حيث تقول:

“حرقناك يا صفر
يا بو المصايب والكدر
وطلع صفر
طلع صفر يا نبي الله”

الصورة التي أخطط لها ليست عادية، هي صورة لامرأة ملفعة بزي جدتي وأمي في زمن لم يبعد عنا إلا القليل، حيث كانت ترتدي رداءً أسود، مزينًا بالخطوط الحمراء بأطرافه وهي تلقي بالفخار ويظهر من وجهها الأنف فقط لا أريد شيئًا غير أنفها، ويظهر سروالها الهاشمي الأحمر أو الأخضر المشغول يدويًا بزخارف جميلة.. لقطة لرجل أو لصبي ليست مغرية بالنسبة إليّ، امرأة عجوز بردائها القديم الأسود أو مشمرها ستكون جذابة للمنظر وأكثر فلكوريا.

لكنّ هذه اللقطة ستكلفني الكثير ، بسبب المحظورات الاجتماعية، ولذلك أنا أخطط لرصد امرأة لا تراني ولا يراني أحد من سكان الحي!! ها هي الشمس تغرب خلف قامات النخيل، اليوم سأصور لقطة تاريخية على ما أظن وستحظى باهتمام الجمهور والمصورين في معرض التراث..

بعد تفكير طويل، قررتُ التقاط صورة لجارتي حكيمة أم عباس، هذه العجوز في العقد السابع من عمرها، احدوداب ظهرها سيعطي للصورة تراثية أكثر، وهي تقول:

“طلع صفر
حندوبتي سالمة
حندوبتي كندوبتي سالمة
هذي لعديوه في القبر”

بيتها يقع على صف بيتي.. وسيكون الالتقاط من الأعلى من النافذة من الطابق العلوي وستكون الصورة من خلف أم عباس.. والزقاق هنا ضيق ولا يمر عليه إلا القاطنون هنا.. فالممر ينتهي إلى جدران متلاحمة مع بعضها وسيكون ابنها علي خارج المنزل ساعة مغيب الشمس وارتفاع صوت أذان المغرب.. سأضيف عليها من الفوتوشوب والألوان ما يغير من ملامح المكان..

ارتفع صوت الأذان، وتأهبتُ لالتقاط الصورة، الأرض متعرجة بالرغم من أنها أسفلت، وكومة أتربة بجانب البيت تظهر من خلال العدسة، لكنّ أم عباس لم تظهر في العدسة حتى الآن، تأخرت عن الخروج من المنزل.. قررتُ الانتظار قليلًا ريثما تخرج مجلببة بردائها أو بشمرها الزهري أو الأزرق بعد أن نزعت ثياب السواد طوال شهري أحزان أهل البيت (ع)..

لماذا تأخرت؟! ربما تحيرت في أي فخار تختار، فالفخار لم يعد في البيوت إلا القدو، وهو عند المرأة كأحد أبنائها لذلك تختار ما به عيب أو خدش لتكسره..

بعد قليل سمعت تكسر الأواني الفخارية في الجوار.. خشيت أن تفوتني فرصة التقاط صور للأواني الفخارية المتكسرة.. عليّ أن أتجلد مكاني، ففي أي لحظة قد تخرج أم عباس وتفوتني فرصة لقطة لن أستطيع أن أجدها في أي مكان من القرية..

تعبت ساعداي وأنا أحمل الكاميرا، فتركتها تتدلى على رقبتي من خلال الشريط الأسود الذي عقد بها..

انقضت ساعة من الليل ولم تخرج حكيمة بعد، شعرتُ بحنق لم أشعر به من قبل بإزائها، هل علمت بالأمر، فأرادت أن تحرمني من صورة فريدة قد تلاقي إعجابًا جماهيريًا كبيرًا، لم أعهد حكيمة تتأخر عن كسر القدو، هل هو المرض الذي ألم بها، لم أيها المرض لم تأتِ إلا الآن، أم هو الموت قد رأف بعمرها.. ذرعت الغرفة جيئة وذهابًا.. أصابني الملل من طول الانتظار عندها قررتُ أن أنزل إلى طرقات القرية وألتقط صورًا كي لا يفوتني المهرجان الشعبي كليًا.. ذهبت للطرقات أخذتُ ألتقط قطع الفخار المتناثرة هنا وهناك..

بينما كنت أمشي رأيت امرأة تخرج من بيتها وهي تتلفع بمشمرها الزاهي الألوان وهي تهزج بالأغنية بصوتها الرديء.. أردتُ أن ألتقط لها صورة لكنّ الرجل الذي كان يمرّ من هناك حال دون ذلك، ألقت المرأة القدو فتكسر ومضت سريعًا، غيرت طريقي إلى جانب آخر من القرية، طريق طويل جدًا.. تصف البيوت إلى جانبي الطريق يمينًا وشمالًا، هناك لم يحالفني الحظ أيضًا.. أم عباس ما زالت عالقة في ذهني، الصورة التراثية التي رسمتها في مخيلتي لم تفارقني..

عدت وأنا أركض، أجل، لقد ركضتُ، لعلي أحظى بها.. حين وصلتُ كانت أم عباس قد وقفت عند عتبات بيتها وبسرعة سبقت لهاثي وأنفاسي قد ألقت بالقدو، كان الحدث أسرع من أن ألتقط صورة له.. عادت أم عباس إلى الداخل بعد أن رمقتني بنظرة استغراب.. بحركة اعتيادية أخذت ألتقط صور قطع القدو باستسلام بالغ كمن وصل متأخرًا لأرض المعركة.. كم كانت الحسرة تأكلني وأنا أقول في نفسي: هنا كانت جارتنا أم عباس تلقي قدوها..



error: المحتوي محمي