الإسراء حقيقة أم خيال؟؟.. الجزء (العاشر)

الردود على الإشكال الخامس

في المقال السابق من البحث طرحنا مقدمات مهمة تدور حول هذا الإشكال الخامس وعرضنا رأي الدكتور الزيدان والآن جاءت لحظة الحسم للردود عليهم:

(١)- إنّ قول الواقدي الآنف الذكر بـ(المسجد الأقصى) ملازم لقوله (المسجد الأدنى)، كما هو واضح في العبارة، فهما وصفان لا عَلَمان، وبالتالي يكون هذان المسجدان متكررين عند كل متكلم في بقاع الأرض بشرط أنْ يكون مسجدٌ أبعد والآخر أقرب، فلو ذُكِرَ لفظ المسجد بوحده من دون ذِكرِ (المسجد الأدنى) أو ما معناه فإنّ هذه العبارة (المسجد الأقصى) لا تصح.
وهنا ننوه بأنّ نفس الحدث وهو مجيء النبي (ص) من معركة حنين ذكر في كتاب لمؤلف آخر لم يذكر فيه لفظ (المسجد الأقصى) لعدم ذكره (للمسجد الأدنى)، وهو (الطبقات الكبرى) ابن سعد 2 / 154: وكان رسول الله صلى الله عليه(وآله) وسلم انتهى إلى الْجِعِرّانَةِ ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة فأقام بها ثلاث عشرة ليلة فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من ذي القعدة ليلا فأحرم بعمرة ودخل مكة فطاف وسعى وحلق رأسه ورجع إلى الْجِعِرّانَةِ من ليلته كبائت ثم غدا يوم الخميس فانصرف إلى المدينة فسلك في وادي الْجِعِرّانَةِ حتى خرج على سرف ثم أخذ الطريق إلى مر الظهران ثم إلى المدينة صلى الله عليه (وآله) وسلم.
فهنا لم يذكر لفظ (الأقصى) لعدم ذكر المسجد الثاني (الأدنى)، بينما الواقدي ذكر تعبيري (المسجد الأقصى) و(المسجد الأدنى) كعلامة للقارئ موضّحة ومنصوبة للمسجدين.
كما أنّه نصب هذه العلامة بوضح أكثر مرة أخرى في كتاب آخر ومؤلف آخر، وهو كتاب (شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام) لتقي الدين الفاسي المكي (775 هـ – 832 هـ) ج 1/ ص ٣٨٤: … قال: أخبرني زياد بن محمد بن طارق أخبره أنه اعتمر مع مجاهد من الْجِعِرّانَةِ، فأحرم من وراء الوادي حيث الحجارة المنصوبة، قال: ومن ههنا أحرم النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم. وإنّي لأعرف أول من اتخذ المسجد على الأكمة، بناه رجل من قريش سمّاه، واشترى بمال عنده نخلا، فبنى هذا المسجد، قال ابن جريج: فلقيت أبا محمد بن طارق فسألته فقال: اتفقت أنا ومجاهد بالْجِعِرّانَةِ، فأخبرني أنّ المسجد الأقصى الذي من وراء الوادي بالعدوة القصوى مصلى النبي صلى الله عليه (وآله) وسلّم ما كان بالْجِعِرّانَةِ، قال مجاهد: وأما هذا فإنما بناه رجل من قريش، واتخذ ذلك الحائط …
بعد ذكر هذه المقدمة نذكر إشكال الدكتور الزيدان في عبارة الواقدي (للمسجد الأقصى)، فنقول: بأنّ هناك فرق شاسع بين المسجد الأقصى الذي ذكره الواقدي والمسجد الأقصى المقصود بالآية الشريفة، فالواقدي وصف ما بين المسجدين الموجودين في الْجِعِرّانَةِ، فوصف الأول بالمسجد الأقصى (الأبعد) في الوادي بمعنى المنطقة السفلى، والمسجد الآخر بالمسجد الأدنى (الأقرب)، وهو في منطقة الأَكَمة أي ما ارتفع من الأرض كالتَّلّ.
بينما عبّرت الآية الشريفة بـ(المسجد الأقصى) مقابل تعبيرها بـ(المسجد الحرام)، والآية تذكر مسجدين لا علاقة للمسجدين المذكورين في الواقدي.
والنتيجة الحاسمة هي: أنّ تعبير الواقدي هو وصفٌ للمسجدين في الْجِعِرّانَةِ، بينما وصفت الآية الشريفة مسجدين بارزين في العالم، ولذا فإنّ سياقها هو الأوفق لبيان مسجدين بارزين في العالم وفي اعتبارهما القبلتين، بينما إقحام وصف الواقدي بالآية المباركة هو ارتباك لغوي لا يمكن الاعتماد عليه كدليل.

(٢) – اتفق أهل العلم على أن سورة الإسراء مكية، قالَ جَلالُ الدِّينِ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ: أَخرَج النّحّاس، وَابن مردويه عن ابن عباس قال: (نزلت سورة بني إسرائيل بمكّة). وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الشَّوْكَانِيُّ: وأخرج النّحّاس وابن مردويه عن ابن عبّاسٍ قال: (نزلت سورة بني إسرائيل بمكّة)، ولو تسامحنا أكثر في مكان نزول سورة الإسراء المباركة فإننا سنجد على الأقل و على وجه الخصوص بأنّ الآية الأولى للسورة مكية، وهذا من الأمور المتفق عليها عند علماء الحديث والتفسير، مع اتفاقهم على أنّ معظم آيات السورة مكية أيضا، ولتوضيح ذلك نقول:[ تحتوي سورة الإسراء على 111 آية، اتفق معظم العلماء على أنها سورة مكية بينما يرى بعضهم أنّ بعض آياتها نزلت في الأصل في المدينة المنورة ، والآيات هي:(26 و32 و33 و57 و58). مستندين في قولهم على ما روي عن ابن عباس بأنّه قال:” هي مكية إلا ثمان آيات: من قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} إلى قوله: {نصيرا} (الإسراء: 73-75)” هذا قول قتادة]. والنتيجة هي: اتفاق جميع العلماء على أنّ الآية الأولى من السورة نزلت في مكة قبل الهجرة.
وإذا علمنا أن قصة الاسراء من الأمور الحادثة قبل الهجرة، واتفقنا بأنّ النبي (ص) قد أسس مسجد قباء، ليكون تأسيسا أولياً لفكرة المساجد، وهو في بداية الهجرة الى المدينة، فمن باب الأولى يكون تأسيس مسجد الجِعِرَّانة من بعد الهجرة النبوية أيضا، وهذا ما ذكره العلماء بأنّ تأسيسه وبناءه كان قبل وفاة النبي (ص) بثلاث سنوات.
وهنا نستنتج بأنّ آية الإسراء التي نزلت في مكة ليس لها دخل بمسجد الجِعِرَّانة الذي أسسه النبي (ص) بعد الهجرة.

(٣) – إنّ التعبير في قوله تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ…) يناسبه السير الطويل الذي لا يقدر عليه البشر في ذلك الزمان، وقد أظهر الله أعجابه وتعظيمه للنبي (ص) لأنّ السير كان في جزء من ليلة لا الليلة كاملة. أما السير إلى مسجد الجِعِرَّانة فلا يتناسب مع الإعجاب الإلهي لقدرة النبي (ص) على السير وقدرة النّاس على ذلك.
– ولو قال قائل: إنّ التعبير ب(سُبْحَانَ) لم يكن للسير الذي يقدر عليه أكثر البشر، وإنما الإعجاب كان لرؤية الآيات واستدلَّ بقوله تعالى (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا).
فنحن سنرد عليه ونقول له: تأمل في سياق الآية فقد بدأت تراتبيا (بالإعجاب ثم السير ثم الرؤية)، أي ستجدها مرتبة مرحليا فالإعجاب كان للسير، والسير كان لرؤية الآيات، وهذا هو السياق اللغوي الواضح والصريح للآية، ويمكن للقارئ الكريم أن يتفحّص هذا المعنى الوجداني ليكتشف الواقع أو يقترب منه.

(٤) يذكر الدكتور الزيدان أنّ لفظ (المسجد الأقصى) في الآية لو كان المقصود به المسجد الموجود في فلسطين لما كان للمسجد الجامع وجود في نزول الآية.
والصحيح أنّ كلمة (المسجد) في القرآن وبالخصوص في السور المكية لم يتشكل لها مصطلح جدران الجامع المتعارف عليها في هذا الزمان، وإنما كان المتشكل في ذاكرة العرب لفظ المسجد أو السجود أو الساجد أو غيرها أشبه بمكان الخضوع والتقديس والتعظيم، فليس له شرط الجامع وإنما هي الأرض المقدسة وهو بيت المقدس، فنستنتج أنّ تعبير الآية بـ(المسجد الأقصى) يعني البلدة والقرية المقدسة، والنتيجة أنّ لفظ (المسجد الأقصى) في الآية ليس هو المسجد الجامع المتداول والمسمّى قبة الصخرة، وإنّما هي البلدة الواسعة الموصوفة بأنها أبعد مكان في العالم.
والدليل على أنّ أرض المقدس هي مقدّسة حقيقة هو أنّ النبي وأصحابه كانوا يُصلّون في المدينة المنورة وقبلتهم هي بيت المقدس، لا المسجد الأقصى المشهور عند النّاس الآن، وهذا من البراهين الساطعة الدالة على فهم الآيات القرآنية التي توجّه النّاس شطر المسجد الحرام من بيت المقدس، قال تعالى (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ … وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ..)، فتعبير الآيتين الشريفتين (قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) و(الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا) دالّ على أن البارز قبلتان، القبلة التي كنت عليها والقبلة التي عليها الآن، وهذا دليل على عظمة بلدة بيت المقدس.
وفي الختام وبعد أنْ تم عرض الإشكالات الخمسة والرد عليها لم يتبقى علينا سوى عرض خاتمة لهذه السلسلة البحثية في المقال القادم ليكون مسك الختام لها. نلقاكم على خير.



error: المحتوي محمي