لم يكن حال الناس وتصرفاتهم ومنطق تعاملهم بالذي يتوافق وينسجم مع الإدراكات العقلية الرشيدة، بل هي أفعال من غُيب عقله كالسكران، وسار كالأعمى خلف شهواته ونزواته وسبل تحصيلها بأي طريقة كانت، ومما هو معروف أن مستنقع الأهواء والنقائص والعيوب ليس بمستوى واحد، بل يستدرج الإنسان شيئًا فشيئًا وينتقل متسافلًا ومنحطًا من درجة إلى أخرى، إذ إن المرء متى ما فقد عقله وضل طريق الحكمة والمنطق لم يتوقف مسلسل خطاياه بل يستمر ويخرق في كل خطوة ما كان يومًا يتصور أنه جدار منيع لا يمكن تسليط معول النزوات عليه، ولكنها النفس الجامحة -بلا لجام النضج الفكري- تسرع الخطى بلا هدى أو دليل، فتأخذ صاحبها بعيدًا عن سمت الإنسانية المكرمة بالعقل إلى عالم البهيمية؛ ليجد نفسه قد انساق كالأسير خلف الشهوات، فلا يتحكم في خطواته ولا يستطيع حينئذ الانتباه للحال السيء والواقع المؤلم الذي انجر إليه، ولا يجد فرصة ليرهف سمعه -بعد أن فقد وعيه- لصوت النصح من العقل الباطن وهو العقل، فقد عطل مداركه وقواه عن فهم ما وصل إليه من سوء وحال يرثى له ويتحسر على بلوغه الهاوية.
وهذا الظلام والضلال الذي كان عليه الناس في عهد الجاهلية وقبل بزوغ نور الإسلام، مما عبر عنه القرآن الكريم بأسلوب بلاغي جميل ومختصر {… وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} {الجمعة: الآية 2}، وهذا الضلال والانحراف عن الفطرة السليمة والعقل الرشيد انعكس على مختلف جوانب حياتهم، وقد أخبرنا القرآن الكريم عن بعض تلك الجرائم في حق أنفسهم والتي تعبر عن الانحطاط الفكري والأخلاقي الذي وصلوا إليه، فعبادتهم للأصنام التي صنعوها بأيديهم واتخذوها آلهة تعبد من دون الواحد القهار واتجهوا لها في طلب حوائجهم وتصريف أمورهم، وما فطنوا إلى أنها حجارة لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًا فكيف لها أن تجلب لهم ما افتقرت إليه، ولذا كانت البراهين التي ساقها النبي الأكرم ﷺ للدلالة على الصانع المبدع ترتكز على تحريك دفائن عقولهم ونفض غبار الغفلة والجهل عنها والاتجاه بها نحو التأمل والتدبر في الآيات الكونية الدالة على الحكيم المدبر، والتأكيد على افتقار تلك الحجارة للتزحزح ولو لخطوة، فضلًا عن القدرة على تدبير شؤون الكون وما فيه.
ومن انعكاسات تغييب العقل وتسممه بالأفكار الخاطئة والتصورات الواهمة وأد البنات، بمعنى دفن المولود إذا كان أنثى وهي ما زالت على قيد الحياة دون رادع ولا شفقة، فبأي وسيلة نزعت الرحمة من أب قد أودع الله تعالى فيه غريزة الأبوة الداعية للحنو والشفقة على الأبناء، فالأب السوي لا يتحمل رؤية أحد أبنائه قد أصابته شوكة أو مرض، فكيف استطاعت رجلاه أن تحث الخطى نحو حفر قبر لابنته وردمها دون أي ذنب سوى أن الله تعالى خلقها أنثى!!
ومن تلك الانعكاسات لانغماسهم في دياجير الجهل المطبق معاملة المرأة كأي قطعة من قطع البيت، إذ يحرمونها أبسط حقوقها المادية كالميراث والمعنوية كالاحترام والتقدير لشخصيتها وعقلها، وهذا ما نسميه في عصرنا بالمجتمع الذكوري الذي لا يؤمن بوجود المرأة الفاعلة والنشطة في بناء لبنة المجتمع (الأسرة) والمشاركة في عجلة التنمية والازدهار في المجتمع.
وانعكس التهور والطيش في التعامل على تصرفاتهم اللا عقلانية حيث سادت الكراهيات والخصومات بين القبائل لأسباب بسيطة جدًا كالخلاف حول البئر والكلأ ثم تتطور إلى قطيعة أو قتال، وغيب العقل عنهم في ممارساتهم اللا أخلاقية كتعاطيهم الخمور ولعب الميسر والتعامل بالربا وغيرها، والتي تدل على حياة الشهوات والأهواء المتفلتة عندهم، فكانت البعثة المحمدية بارقة الأمل لانتشالهم من مستنقع الرذائل ونقلهم إلى عالم الطهارة وتحكيم العقل الواعي ووضع زمام الأمور تحت أحكامه المعبرة عن الصواب والمنطقية، فقد كان العامل المهم في انشراح الصدور للإسلام والدخول فيه أفواجًا، ما كان يمتلكه الرسول الأكرم ﷺ من سعة الصدر وتحمل المتاعب التي لاقاها من المعاندين، فقد جسد الكمال الإنساني في التعامل والخطاب، إذ خلقه الرفيع عامل للاستماع والاقتناع بما يسوقه من أدلة التوحيد.