الإشكال الخامس
بعد استكمال ردودنا على الإشكال الرابع وباستفاضة أثرت وعي القارئ الكريم سنكمل اليوم سلسلتنا البحثية هذه باستعراض الإشكال الخامس، ثم نبين بعض المقدمات المهمة، ومن بعدها الرد على الإشكال.
استعراض الإشكال:
يتبنّى هذا الإشكال بعض الباحثين المعاصرين من المسلمين، وبالأخص الدكتور يوسف الزيدان، وهو مفكر مصري قدير، وبيان هذا الإشكال ما يلي:
تعدّ حادثة الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى من الحوادث التاريخية التي وردت في القرآن الكريم، وهي أمر ثابت بلا ريب، إلّا أنّ المسجد الأقصى الموجود حاليًّا في فلسطين قد بني بعد هجرة النبي (ص) بثلاث وستين سنة، وقد أسسه وبناه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان.
والدليل على ذلك هو ما ورد في كتاب مرآة الزمان : وفيها ابتدأ عبد الملك بن مروان ببناء القبة على صخرة بيت المقدس وعمارة الجامع الأقصى، وكملت عمارته في سنة ثلاث وسبعين، وكان السبب في ذلك أن عبد الله بن الزبير كان قد استولى على مكة، وكان يخطب في أيام منى وعرفة، ومقام الناس بمكة ، وينال من عبد الملك ويذكر مساوئ بني مروان، ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الحكم وما نسل، وأنه طريد رسول الله صلى الله عليه (وآله)وسلم ولعينه، وكان يدعو إلى نفسه، وكان فصيحا، فمال معظم أهل الشام إليه، وبلغ ذلك عبد الملك فمنع الناس من الحج فضجوا ، فبنى القبة على الصخرة والجامع الأقصى ليشغلهم بذلك عن الحج ويستعطف قلوبهم، وكانوا يقفون عند الصخرة ويطوفون حولها كما يطوفون حول الكعبة، وينحرون يوم العيد ويحلقون رؤوسهم، ففتح بذلك على نفسه باب تشنيع ابن الزبير عليه، فكان يشنع عليه بمكة ويقول ضاهى بها فعل الأكاسرة في إيوان كسرى، والخضراء كما فعل معاوية، ونقل الطواف من بيت الله إلى قبلة بني إسرائيل، ونحو ذلك. (البداية والنهاية، ابن كثير، ج ٨ / ص ٣٠٨)
ولذلك يقول الدكتور الزيدان بأنه لا يمكن أنْ يكون ما ذكر في القرآن الكريم هو المسجد الأقصى في فلسطين حاليًّا، إذ أن وقت نزول الآية غير موجود بهذا الاسم، وقد رجّح رأيه بأنّ المقصود به (أي المسجد الأقصى) مسجدٌ في طرف مكة وهو موجود في أيام حياة الرسول (ص)، واستقرب أنّه مسجدُ الجِعِرَّانة الذي سمّاه الواقدي في المغازي بالمسجد الأقصى في عبارته بعد الانتهاء من معركة حنين، التي يقول فيها:
وَانْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ(وآله) وَسَلّمَ إلَى الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ لِخَمْسِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فَأَقَامَ بِالْجِعِرّانَةِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ فَلَمّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى الْمَدِينَةِ خَرَجَ مِنْ الْجِعِرّانَةِ لَيْلَةَ الْأَرْبِعَاءِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ بَقِيَتْ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لَيْلًا، فَأَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الّذِي تَحْتَ الْوَادِي بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى، وَكَانَ مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ (وآله) وَسَلّمَ إذَا كَانَ بِالْجِعِرّانَةِ، فَأَمّا هَذَا الْمَسْجِدُ الْأَدْنَى، فَبَنَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَاِتّخَذَ ذَلِكَ الْحَائِطَ عِنْدَهُ).
مقدمات توضيحية:
بعد هذا العرض المبسّط للإشكال، سنمهد الأرضية لطرح مقدمات مهمة تدور حوله قبل الرد عليه، وهي:
(١) إنّ الْجِعِرّانَةِ اليوم قرية صغيرة تبعد عن مكة في الشمال الشرقي لها بحوالي أربعة وعشرين كيلو متراً. ويمكن مراجعة (هداية الناسكين، للشيخ عبد الهادي الفضلي، ص89).
إن قرية الجِعِرَّانة تعد من المعالم الشرعية لتحديد إحرام العمرة وتسمى (أدنى الحل)، وهذا المصطلح لمن كان في مكة وأراد أن يؤدي العمرة المفردة يجب عليه أن يخرج من حدود الحرم المكي، وأول نقطة للْجِعِرّانَةِ ليست من الحرم المكي، فلذلك تسمى (أدنى الحل) فيحرم فيها، وهذا المصطلح له ثلاثة مواضع في أطراف مكة: الْجِعِرّانَةِ والحديبية والتنعيم.
(٢) أن المرتكز في ذهن المسلم عند ذكر المسجد الأقصى هو ذلك المسجد الموجود في فلسطين، ومن فلسطين سيتجه فكره مباشرة إلى بيت المقدس، بينما يرجّح الدكتور الزيدان بأنّ المسجد الأقصى الوارد في القرآن هو مسجد الْجِعِرّانَةِ، والعلامة الواضحة التي يستدل بها على رجحان رأيه هي أنّ المسجد الأقصى في فلسطين لم يكن موجودا عند نزول القرآن، وأنّ تأسيسه وبنائه كان على يد عبد الملك بن مروان في سنة 63 هـ، وهذا الرأي للدكتور سوف يلغي بل ألغى من ذاكرته قداسة بيت المقدس والمسجد الاقصى، وإنّما اعتبره المسلمون شعاراً دينيا لارتباطه بالرسول (ص) والأنبياء جهلا منهم، والا فالأمر ما اقتضته السياسة لا أكثر.
وبعبارة أخرى: يؤكد هذا النص لابن كثير، على الدواعي السياسية التي كانت وراء بناء الأقصى، وهو ما جعل منكري القصة يعتبرون الواقعة من اختلاق الأمويين، ومحاولة “أسطرة” المسجد الأقصى تبريرا لقرارهم منع الناس من الحج، هذا حسب رأي الدكتور يوسف زيدان.
(٣) عندما يثْبُت أنّ المسجد الأقصى هو مسجد الجِعِرَّانة، ستنتفي معجزة الإسراء للنبي (ص)، لأنّ كثيراً من النّاس قادرون على السير من المســجد الحرام الى مسجد الجِعِرَّانة في ليلة واحدة، وذلك لأن الإنسان الطبيعي يمكنه قطع مسافة ستة 6 كيلو مترات في ساعة واحدة، ويكون سيره مشيا ذهابا ٤ ساعات، وإيابا ٤ ساعات، وهذا النّشاط يمارسه كثير النّاس، وأما السير بالخيل فلا إشكال في إمكانيته ووقوعه عند الكثير لبداهتها، وبالتالي تنتفي الكرامة الملامسة للنبي (ص) في هذا الإسراء.
وأما الإجابة على إشكال الدكتور يوسف الزيدان، سنرجئه للمقال القادم بإذن الله.