الأستاذ أحمد، كاتب ذو شأن في عالم الأدب، له صيت واسع، يُشارك في المُنتديات الأدبية والثّقافية، له مُؤلفات كثيرة، وتُنشر قصصه في المجلات الأدبية باتساع الأفق، كان ولازال صديق العائلة، الشّخصية المُغرية لي في تجربتي الكتابية الأولى.
اقترح أخي عادل أن أعرض عليه كتاباتي، وأتواصل معه عبر “الواتساب” وآخذ رأيه فيها، وبدوره سيُخبره بذلك، وأعطاني رقم هاتفه النّقال.
ترددت كثيرًا في التّواصل معه، ولا أعلم سبب هذا التّردد، أيكون لإحساسي بأن ما أكتبه ليس جيدًا، أم بسبب تواصلي مع رجل غريب لا تربطني به صلة قرابة.
بعد يومين، قمت بإرسال بعض النّصوص إليه، فرحب بها، وكان أسلوبه معي راقيًا، مما أخجلني بلطفه، وأخبرني بأنه سيقرأ النّصوص بدقة، ويتأملها، ثمّ يُرسل لي رأيه، وملاحظاته خلال أسبوع من تواصلنا.
دائمًا الإنسان في بداياته، يكون مُتوجسًا من انطباع الآخر، ورأيه في مُنجزه، سواء أكان هذا المُنجز كتابيًا، أم شكلًا آخر، شُعور لا نستطيع توصيفه، أو التّنبؤ بأسبابه، منطقية كانت، أو لا، يظلّ شُعورًا يختلج في أعماق الإنسان. تُبين ياسمين.
لا عليكِ، أكملي حديثكِ، هل نسيتي أننا أخذنا نصيبنا من النّوم في الحافلة، تعلمين أنّي أغرق في كلماتكِ، وحياتكِ غرق الحياة. تُجيبها حنان
أخذ وقتًا أطول مما وعد، قرأت تعليقه، ويديّ ترتعشان من هول الصّدمة، رائحة الغُرور، تفُوح من كلماته، استنقاص الآخرين في معانيه، قطع حبل الأمل في قلبي، أرداه مُضرجًا بأشيائي المُبعثرة، نصحني بأن أشغل نفسي بأمور أخرى، بعيدًا عن الأدب، وتحديدًا كتابة القصة، كوني -في رأيه- لا أمتلك الموهبة، شكرته، والغضب، يحتضنني بين أظافره، وأغلقت هاتفي، وقذفت به على الأرض، وأخذت وسادتي، وبكيت كثيرًا، بُكاء الانكسار مُؤلم.
أحسست لبرهة أن عقارب السّاعة توقفت عن دورانها، ودُموعي تجمّدت في عيني، آه..، فكم أوجعتني حُروفه، التي ألبسها طراوة اللّغة، بأن ما سطرته مجرد خربشات طُفولية.
وماذا حدث بعد ذلك؟ تسألها حنان بألم وحاجبها يُفسر غضبها.
بقيت فترة أعاني من البُؤس، الإحباط أخذ منّي مأخذه الواسع، كرهت نفسي، فقدت الثّقة في يراعي، وهجرت قرطاسي، حتى القراءة، تركتها، لم تعُد لي رغبة الأنس بها. تُجيبها ياسمين
وبعد شُهور من الوقت، لا أعلم عدد أيامها، ثمّة صوت داخلي، لم يهدأ في ذاتي، رجعت إلى القراءة، لتُغرقني بأنسها بشكل احتلني بقُوة جاذبية، فالألم مُحفز نوعي، لأن يحتوينا الأمل مُجددًا.
والصّوت الدّاخلي، ماذا همس في داخلكِ؟ تُتابع حنان في استجوابها
عندما يجذبك البوح، يكون للسُؤال طرح آخر، كطعم الفُستق، ورائحة اللّيمون.
إنّه البلسم، الذي انتشلني من القلق، هذا البُؤس، الرّكود، ليُحرك نهر الأحلام فيّ، يدعوني إلى الكتابة، الاستمرار فيها، أصغي إليه بكلي، يُخبرني بأن أستمر.
يقُول: سيأتي يوم، تجدين فيه من يحتضن موهبتك، من يُلملم شتات هذا الوجع، ويربت على جبينكِ، كتفيكِ، يغمركِ بلطفه، يُلبسكِ الأمل، يمنحه العُنفوان، الذي تنتظرينه.
وفي غمرة هذه الدّراما، التراجيديا، كانت المُفاجأة غير المُتوقعة. تبتسم ياسمين وأنفاسها في تأملات الدّهشة على ملامح حنان الغارقة في اللاشيء
لن تتوقعي يا حنان، إن أخبرتك بها، حقًا، إن الحياة بالرغم من قساوتها في بعض جُزئياتها إلا أنها تحمل الفرح فوق جناحيها، لتغمرك السّعادة، وأنت لا تعلم.
أكملي ياسمين، لا يتملكني الصّبر على معرفة المُفاجأة.
حسنًا، ولكن الوقت شارف على الصّباح البهي، بضع دقائق، ويصدح المُؤذن بحي على الصّلاة. تُشير ياسمين
لا بأس، أخبريني فقط بالمُفاجأة، ونؤدي الصّلاة، بعدها نأخذ قسطًا من الرّاحة، ننام قليلًا، ونتوجه إلى الجامعة. حنان تُغريها بالحديث
ذات يوم وصلني إشعار بوصول رسالة على البريد الإلكتروني، كانت من شخص لا أعرفه، تعجبت كثيرًا، فقد جاءت أحرفه، كأنها تعرفني، وكأنَّه يسكن داخلي، ويقرأ ما يختلج في ذاتي، كتب في رسالته:
يا سيّدتي الكاتبة..
لقد وصلتني بعض نُصوصك، قرأتها بتأمل، تعمقت فيها، لأجدني أغرق فيها، فأنتِ كاتبة لها انسيابية في التّعبير عن ذاتها، لغتكِ مُطرزة بالهُدوء في ظاهرها، وفي باطنها، تختزل الانفعالية، كدفء اللّحظة، لديكِ القُدرة على تقنية الانفصال المكاني، والتّجرد من الزّمن، الاستغناء عنهما، كيف لهذه اللّغة، أن تستحوذ عليكِ بلا زمن، أو مكان، لتشعر بهما في آنٍ واحد.
يا سيّدتي الكاتبة..
إن الكلمات، تبثها الرُوح بين أصابعكِ، كارتعاش الشّفق في الصباحات، لتستقر في النّداءات.
في نُصوصكِ، القلب، كمدائن العُشب، والنّهر سفينه، الذي يقُوده إلى الشّاطئ.
يا سيّدتي الكاتبة..
أراني أقرأ اللا حس، فإن في الكلمات عينيكِ، وفي المعنى نبضاتكِ، على نغم المُوسيقى، لتكون الاحتضان ذاته، الاستشعار، الذي من خلاله نتعرف على ذواتنا، وعلى الحياة.
يا سيّدتي الكاتبة..
أراكِ تُراقصين ذاتكِ في بوحكِ مع خصر كتاب، حافية القدمين، يُبلل وجنتيكِ المطر، ليغزل من سواد شعركِ اشتهاء الأبجدية عبر استدعاء وميضها، تحت أنين الحكايات، كالحديث مع الرّوح، تنقبض حينًا، وتتزحلق على قطع من الثّلج، وتُمارس اللّعب.
يا سيّدتي الكاتبة..
وتأتين من تلك الزّاوية الحُبلى بكِ، كاحتواء الظلّ في لغة العشق، كخيط، يشق طريقه، المُوغل في آهاتنا، كارتواء الدّمعة الأولى، وزقزقة المساء على فم عصفورة، بللها المطر.
لا أطيل عليكِ الحديث يا حنان، لنُكمل في وقت آخر، فقد داهم النُعاس عينيكِ، ولست بأقل منكِ، عينيّ، تُقارع النُعاس، بينما الذّكريات، تستفيق فلا النُعاس، يُبعدها بقدر ما يُشعلها، لتُبحر أكثر.
عانقت حنان بيديها ياسمين، وقبلتها على جبينها..
حسنًا، لكِ تلبية نداء النُعاس، ولنا موعد، يأتي لتُكملي هذه التّفاصيل، كلّ يوم أقترب منكِ أكثر، أجدني لا يُمكنني إلا أن أعيشكِ في واقعي، وخيالاتي.
تُتقن الفنانة الغرق في التّصورات الخيالية، تُحول الواقع إلى ما يُشبه الخيال، أليس الخيال ياسمين، يأتي الجزء، الذي يُمثلنا، ولكننا لا نلتفت إليه، خُذيني من واقعكِ، ذكرياتكِ، تطلعاتكِ، أحلامكِ الوردية، وازرعيني سنبلة، وانثري القمح في بُستاني، لأعانق ضوء الشّمس. تهمس حنان وحُمرة خديها تُهدي ياسمين السّلام..