القسم الأخير
صراع بين مسجدين!
ختمنا مقالنا السابق بتوجيه دعوة للقارئ الكريم تحثه على المتابعة الهادئة والرصينة التي تعكس وعيه وعمق تفكيره، ومن قبلها قمنا بالرد في المثال الثاني على الروايات المذكورة في كتب (الكافي، كامل الزيارات، وكتاب من لا يحضره الفقيه)، وفي المثال الثالث رددنا على الرواية المذكورة في كتابيّ (الكافي، وذكرى الشيعة في أحكام الشريعة) وكان الرد في خمسة أوجه وقد وعدناك أيها الكريم باستكمال الرد على هذا الصراع بعرض المثال الرابع لننهي معاً سلسلة الردود على هذا الإشكال.
المثال الرابع:
أولاً: تأسيس مسجد الكوفة ومعالمه:
1-تاريخ الكوفة – السيد البراقي – الصفحة ٣٣ يقول: إنّ أول من أسس مسجد الكوفة وبناه هو آدم (عليه السلام) كما هو المشهور والمأثور، ولعل الملائكة فيما قبل بنته، وإن كان لم يذكر أحد ذلك من أهل الأخبار، لكن بمقتضى كلام جبرئيل للنبي(ص): إني رأيته خرابا ورأيته عمرانا، أن تكون عمّرته الملائكة بأمر الله تعالى ثم عمّره آدم (عليه السلام).
2-الكافي، بإسناده عن المفضّل قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالكوفة أيام قدم على أبي العباس فلما انتهينا إلى الكناسة قال: هاهنا صلب عمي زيد (رحمه الله)، ثم مضى حتى انتهى إلى طاق الزياتين وهو آخر السرّاجين فنزل وقال: انزل فإنّ هذا الموضع كان مسجد الكوفة الأول الذي كان خطّه آدم وأنا أكره أن أدخله راكبا. قلت: فمن غيره عن خطته؟ قال، أما أول ذلك فالطوفان في زمن نوح ثم غيّره أصحاب كسرى والنّعمان ثم غيّره بعد زياد بن أبي سفيان فقلت: وكانت الكوفة ومسجدها في زمن نوح؟ فقال لي: نعم يا مفضّل وكان منزل نوح وقومه في قرية على منزل من الفرات مما يلي غربي الكوفة …. فقلت له: إنّ مسجد الكوفة قديم؟ فقال: نعم وهو مصلى الأنبياء (عليهم السلام) ولقد صلى فيه رسول (صلى الله عليه وآله) حين أُسري به إلى السماء فقال له جبرئيل (عليه السلام): يا محمد(ص) هذا مسجد أبيك آدم (عليه السلام) ومصلى الأنبياء (عليهم السلام) فانزل فصلِّ فيه، فنزل فصلى فيه، ثم إن جبرئيل (عليه السلام) عرج به إلى السماء.
3- في روضة الواعظين – الفتال النيسابوري – الصفحة ٤١٠: يوجد رواية تشمل المسجد وغير المسجد من الكوفة، وهي عن الإمام الباقر “ع”: الكوفة هي الزكية الطاهرة فيها قبور النبيين المرسلين وغير المرسلين والأوصياء الصادقين وفيها مسجد سهيل الذي لم يبعث الله نبيا إلا وقد صلى فيها، وفيها يظهر عدل الله، وفيها يكون قائمه والقوّام من بعده وهي منازل النبيين والأوصياء والصالحين.
عند التأمل في الروايات أعلاه ومثيلاتها يمكننا أن نستخلص منها عدة أمور تميّز مسجد الكوفة وتبيّن عظمته التي لا يضاهيه فيها أي مسجد سوى المسجد الحرام منها:
ـ أنّه أقدم مسجد في العالم ولا تسبقه في الأقدمية إلا الكعبة.
ـ قيل بنته الملائكة، وقيل آدم، وقيل نوح، وغيرهم من الأنبياء.
ـ الكوفة بقعة فيها قبور الأنبياء والأوصياء.
ـ أسرى به الرسول (ص) وصلّى فيه ركعتين.
ـ مصلّى الأنبياء والمرسلون.
ثانياً- تأسيس بيت المقدس ومعالمه:
بعد استعراض الروايات التي تبيّنت عظمة ومكانة مسجد الكوفة وما استخلصناه منها يأتي الدور على الروايات التي تبيّن عظمة المسجد الأقصى:
سنعرض مثالًا للمعالم القديمة للمسجد الأقصى أو بيت المقدس في (كتاب تاريخ بيت المقدس، لابن الجوزي ص ١ – ٢ ): .. روى الحافظ في كتابه المستقصى بسند من أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: (المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعين سنة ثم قال: زاد الفرا: أينما أدركتك الصلاة فصل فهو مسجد. ثم قال: هذا حديث صحيح أخرجاه في الصحيحين وأخرجه النسائي والقزويني نقلته من باب: أي مسجد وضع في الأرض أول من باب: فضائل بيت المقدس يروى بعد ذلك باب بني بيت المقدس على أساس قديم قال: والأساس الذي أسسه سام بن نوح عليهما السلام ثم بناه داود وسليمان عليهما السلام على ذلك الأساس قلت: وقد يقال ينبغي أن يكون الذي أسسه سام عليه السلام على بناء القبلة الحديث المقدم فإنه روي عن الأزرقي عن مجاهد رضي الله عنهما قال:) لقد خلق الله الأرض بألفي عام، وإن قواعده في الأرض السابعة السفلى. ثم روى عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن البيت الحرام من بناء الملائكة عليهم السلام.
أقول: هذا الكتاب إذا قرأناه نرى أحاديث خاصة من أهل السنة حول فضائل بيت المقدس، وهي أكثر من ١٠٠ رواية على الأقل، فراجع.
لو تأملنا في هذه الروايات أيضاً سنستخلص منها عدة أمور تميّز المسجد الأقصى وتبيّن عظمته التي لا يضاهيه فيها أي مسجد سوى المسجد الحرام منها:
ـ أنّه أقدم مسجد في العالم ولا تسبقه في الأقدمية إلا الكعبة.
ـ أنّ أول من بناه الملائكة، أو النبي آدم، أو ابنه شيث، أو سام بن نوح، أو النبي إبراهيم، أو يعقوب، أو داوود وسليمان.
ـ أُسرىَ بالنبي (ص) إليه، وحضر الأنبياء والمرسلون جميعًا.
ـ صلى فيه النبي (ص) والملائكة والأنبياء.
النتيجة الحاسمة:
إذا لممنا أحاديث الشيعة والسنّة حول تاريخ بيت المقدس وتاريخ مسجد الكوفة وجدنا أن أغلبها متعارضة جدًا ومتقاطعة، وبعضها مجهولة، وبعضها مملوءة بالغلو الفاحش لإبراز تعظيم المكان، والقليل الأقل هو المقبول حديثًا، ولكن هذا المقبول يدور حول إشكالين أو تساؤلين آخرين مندمجين!!، يمكننا أن نطرحهما عليك لتتأمّلهما بهدوء تام وهما:
-لماذا لم تنقل كتب التاريخ شيئاً عن حادثة تأسيس مسجدي (الأقصى أو الكوفة)؟ ولماذا تم التركيز في هذا الموضوع على أحاديث المسلمين فقط؟؟!
نحن نظن بل نطمئن بأنّ ما نقلته كتب التاريخ أخف وطأةً مما نقلته الروايات المختلقة في كتب الحديث، ويمكن للقارئ الكريم أن يطبّق هذه الحالة ليؤمن بها وجدانا. وهذه الاستفهامات تجعلنا نتوقف كلياً، بحيث لا ننجر إلى الروايات المجهولة أو المختلقة أو المدسوسة لتضخيم هذا المسجد أو ذاك في زمانه أو مكانه.
وبعد أنْ تمعنّا في مسألة الأقدمية الزمانية لمسجد الكوفة ينبغي لنا ألا ننجر وراء الغلاة والمتطرفين، ففي الحقيقة لا يوجد اطمئنان يرتكز عليه في إثبات ذلك، وهنا نؤكد وبشدّة على أنّ لمسجد الكوفة ميزة وعظمة لارتباطه بأمير المؤمنين (ع) والإمام الصادق (ع)، كما يرى البعض أنّ من عظمة هذا المسجد التخيير فيه بين الصلاة قصرا أو تماما، وكذلك جواز الاعتكاف فيه لخصوصيته، مع أنّ هذين الحُكْمين الفقهيين قابلان للنقاش، وعلى فرض ثبوته لا نفرط في عقولنا فمن المحتمل أن هذه الميزة ليست أبعد من كبر المساحة الضخمة الذي يعطي اتساعا في الدروس الدينية وغيرها، وكذلك اتساع المعتكفين وراحتهم.
وأما قِدَمِ هذا المسجد -أي مسجد الكوفة – فلا أثراً تاريخيًا له يذكر ولا حفريات أو كتابات مسمارية، كما نسمع عن ملحمة جلجامش وهي بحق الواقع الملموس.
لذا من الأفضل لنا إلغاء فكرة هذا البحث عن أقدميته لعدم ثبوتها في كتب التاريخ، وهذا أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، فالذي أثبته التاريخ أنّ من أسسه وبناه هو سعد بن أبي وقاص، بعد معركة القادسية سنة 16 هـ، لا غير.
وأما تعبير (المسجد الأقصى) فله جهتان:
-(الأولى): هو التعبير القرآني في آية الإسراء، ومعناه بقعة أرضية مباركة عند الله، وسمّيت بأسماء متعددة مثل: بَـيْـت الْـمَـقْـدِس، بَـيْـت الْـمُـقَـدَّس، اَلْـقُـدْس، إِيْـلْـيَـاء، أورشليم، وغيرها، وهذه البقعة مباركة ومحتضنة بوجود بعض الأنبياء، وهذه البقعة بالغ فيها الرواة من أهل السنة بمبالغات عظيمة لا ترقى إلى الصدق.
-(الثانية): المسجد الأقصى -الجامع الموجود اليوم-، لا علاقة له بحادثة الإسراء بتاتًا لأنّه تأسس بعد هجرة النبي (ص) بثلاث وستين سنة في عهد الخليفة عبد الملك بن مروان.
وبعد عرض أدلة الطائفتين تكون الصورة قد اكتملت وحسمت موضوع الصراع بين المسجدين. وبهذا المقدار نكتفي لإغلاق ملف هذا الإشكال ونستعد لفتح ملف الإشكال الأخير.