الإسراء حقيقة أم خيال ؟!.. الجزء (السابع)

القسم الثاني

صراع بين مسجدين!

عزيزي القارئ لقد عرضنا في القسم الأول من هذا الصراع المثال الأول من بين الأمثلة الأربعة المرتبطة بإثبات وجود صراع شيعيٌ سُنّي شرس يدور حول أفضلية أحد المسجدين -الكوفة أو الأقصى – على الآخر، و في هذا القسم منه سنستعرض مثالين، وسنبدأ بـــــــعرض المثال الثاني:

المثال الثاني:
– الكافي: … عن هارون بن خارجة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: … إنّ رسول الله (ص) لما أَسرَى الله به قال له جبرئيل (ع): تدري أين أنت يا رسول الله الساعة؟، أنت مقابل مسجد كوفان، قال: فاستأذن لي ربي حتى آتيه فأصلي فيه ركعتين. فاستأذن الله (عز وجل) فأذن له. (الكافي، الشيخ الكليني ج ٣ / ص ٤٩١).
– كامل الزيارات: … عن ليث بن أبي سليم، قال: أخبرني فلان عن فلان عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: عُرِج بي إلى السماء، واني هبطت إلى الأرض فأهبطت إلى مسجد أبي نوح (عليه السلام) وأبي إبراهيم وهو مسجد الكوفة، فصليت فيه ركعتين، قال: ثم قالت: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنّ الصلاة المفروضة فيه تعدل حجة مبرورة، والنافلة تعدل عمرة مبرورة. (كامل الزيارات، جعفر بن محمد بن قولويه ص ٧٩).
– الفقيه: قال النبي صلى الله عليه وآله: ” لما أُسرِيَ بي مررت بموضع مسجد الكوفة وأنا على البراق ومعي جبرئيل عليه السلام فقال لي: يا محمد انزل فصلِّ في هذا المكان، قال: فنزلت فصلّيت فقلت: يا جبرئيل أي شيء هذا الموضع؟ قال: يا محمد هذه كوفان وهذا مسجدها، أما أنا فقد رأيتها عشرين مرة خرابا وعشرين مرة عمرانا، بين كل مرتين خمسمائة سنة. (كتاب من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق ج ١ /ص ٢٣١).
بعد هذا السرد الروائي سنرد باختصار على كل واحدة منها كالتالي:
1- أنّ الرواية الأولى فيها شبهة الغلو لورود سهل بن زياد في سندها لذا لا يمكن الاعتماد عليها، وقد ذكرت أن سهل بن زياد يؤخذ بفقهه ولا يؤخذ بعقائده، والمورد من موارد العقائد.
2- أنّ الرواية الثانية أكثر ضعفا من سابقتها، حيث اعتمد سندها على رواة من أهل السنّة الضعفاء، ولكن من المستغرب! عدم ورود هذه الرواية في كتب أهل السنّة بل لا يوجد أثر لرواية تتحدث عن هذا الموضوع وهو تعظيم مسجد الكوفة.

٣- الرواية الثالثة أكثر ضعفا من سابقتها لكونها مرسلة، وإذا اجتهد الصدوق (ره) في اعتبار الرواية فنحن لسنا مقلدين له مع الاحترام لمقامه.

وإذا تأملنا جيدا في هذه الروايات المعدودة سنرى بأنّها تقوم بتوسعة الخارطة في أفكار المسلمين من مسجد الأقصى إلى مسجد الكوفة، فهذه الروايات تريد أنّ تربط بين المسجدين وكأنّها تود القول بأنّه: كما أُسرِىَ بالنبي (ص) إلى المسجد الأقصى أُريد له استكمال الحدث في مسجد الكوفة، كرامة له من الله عز وجل، ونحن نستنتج بأنّ الراوي أو الرواة أرادوا بخفية سحب البساط من المسجد الأقصى إلى مسجد الكوفة، وهذا دليل واضح على وجود صراع وجداني. ولتتضح الصورة أكثر سنستعرض المثال الثالث سوية.

المثال الثالث:
– الكافي والتهذيب: …عن يعقوب بن عبد الله من ولد أبي فاطمة، عن إسماعيل بن زيد مولى عبد الله بن يحيى الكاهلي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فردًّ عليه فقال: جعلت فداك إنّي أردت المسجد الأقصى فأردت أن أسلم عليك وأودعك، فقال له: وأي شيء أردت بذلك؟ قال الفضل جعلت فداك، قال فبع راحلتك وكل زادك وصل في هذا المسجد فإن الصلاة المكتوبة فيه حجة مبرورة والنافلة عمرة مبرورة والبركة منه على اثني عشر ميلا يمينه يُمنْ ويساره مكر، وفي وسطه عين من دهن وعين من لبن وعين من ماء شراب للمؤمنين، وعين من ماء طاهر للمؤمنين ،منه سارت سفينة نوح، وكان فيه نسر ويغوث ويعوق وصلى فيه سبعون نبيا وسبعون وصيا أنا أحدهم، وقال بيده في صدره ما دعا فيه مكروب بمسألة في حاجة من الحوائج إلا أجابه الله تعالى وفرّج عنه كربته. (الكافي، الشيخ الكليني ج ٣ / ٤٩١). (تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج ٣ / ص ٢٥١).

– الشهيد الأول (ره) في (ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة ج 3 / ص 109) نقل الرواية نفسها ولكن بألفاظ مختلفة، وأكثر صرامة. وهي: أنّ أمير المؤمنين عليه السلام منع رجلا من السفر إلى المسجد الأقصى، وأمره بلزوم مسجد الكوفة والصلاة فيه، فان المكتوبة فيه حجة مبرورة، والنافلة عمرة مبرورة.

سنقوم بالرد على هذه الرواية من عدة أوجه:
الأول: نقول بأنّ هذه الرواية ضعيفة لوجود رواة مجهولين في سندها كـ (يعقوب بن عبد الله من ولد أبي فاطمة) و(إسماعيل بن زيد مولى عبد الله بن يحيى الكاهلي).

الثاني: لو قمنا بتصحيح جميع رواتها على سبيل الافتراض، سيترتب على ذلك فكرة في أغلب الحالات: أنّ فضائل البلدان تنافس في ما بينها، مما جعل التسابق بينها جلي، فتتوسع الروايات وأنت تتوقف إذا كنت واعيا، لأنه لا يبعد أن تكون الروايات مختلقة وموضوعة على الرغم من كثرتها لدى الفريقين، ورواتها سيّان سواء كان شيعة أم سنّة، فكل طائفة تتقرب إلى الله بتسريب الروايات التي تشجع المسافر أو الزائر للسفر حيث تريد، وكلاهما يجر النار إلى قرصه قربة إلى الله تعالى.

الثالث: أنّ في هذه الرواية توجيه للزائر بالسفر إلى مسجد الكوفة متجاهلة الحث على زيارة بيت المقدس، فهي من جهة خطفت أنظار الزائر -كغيرها من الروايات الكثيرة والمبهجة- نحو مسجد الكوفة لا غيره، ومن جهة أخرى حرفت أنظاره عن الذهاب إلى بيت المقدس، ويؤكدّ ذلك صرامة فهم الشهيد الأول (ره) في منع الزائر من الذهاب إلى المسجد الأقصى، وبقليلٍ من التأمل في الرواية سنكتشف من الوَهْلة الأولى أو الثانية وجود هذا الصراع الروائي الشرس الدائر حول المسجدين.

الرابع: أظن أنّ هذه الرواية هي الشرارة التي فتحت الكوة عند الفقهاء نحو أفضلية زيارة مسجد الكوفة والركون إليه، وإقصاء زيارة بيت المقدس من ذاكرة الشيعة، وإن ذكره بعضهم.

الخامس: أن تسمية بيت المقدس ب(المسجد الأقصى) في زمن أمير المؤمنين (ع) تجعلنا نتوقف في صحتها أيضًا، وإنما ذكر هذا الاسم في القرآن هو وصف لا علم، كما أنّه لم يتبلور في ذاكرة المسلمين بهذا لاسم قبل بناءه الذي تم في عهد عبد الملك بن مروان، وسيأتي الرد على هذه النقطة بالتفصيل، فكل ما نرجوه منك هو المتابعة الهادئة التي تعكس وعيك وفكرك، نلقاكم على خير.



error: المحتوي محمي