القسم الأول
صراع بين مسجدين!
في الجزء السابق من البحث بينّا بطلان الدعوى المقامة من أصحاب الإشكال الرابع القائلين بأنّ المســجد الأقصى موجود في الســماء الرابعة والمســمّى بالبيت المعمور، وليس ذاك الموجود في بيت المقدس بأرض فلسطين، ولقد أثبتنا لك أيها القارئ الكريم بأنّ المقصود في الآية هو المسجد الأقصى الكائن بأرض فلسطين، واستكمالا لهذا البحث سنعرض لك الصراع الدائر حول إثبات أفضلية أحد المسجدين (الكوفة ، الأقصى) على الآخر .
تمهيد : لا شك بأنّ مسجد الكوفة الموجود في العراق بمنطقة الكوفة مسجدٌ عظيمُ المنزلة لالتصاقه بأمير المؤمنين (ع) في صلواته الجماعية وخطبه الرنّانة، وقد شيّده المسلمون في جنوب الكوفة بعد انتصارهم على الفرس في معركة القادسية في السنة الـ 15 هـ. وقد وردت روايات كثيرة في كتب الشيعة تعظّم هذا المسجد تعظيما مميزاً على سائر المساجد أو معظمها، وأغلب هذه الروايات ضعيفة جدًا، ولا يمكن الاعتماد عليها إلا من باب التسامح في أدلة السنن أو رجاء المطلوبية، وقد حققناها وضعّفناها لمخالفتها للقرآن بإسلوب مفصل. بل وجدنا فيها مبالغات ضخمة وبشكلٍ فاحش، فضلاً عن أنّ الكثير من رواتها ممن ضُعِّفوا عند علماء الرجال لغلوهم وتطرفهم، كسهل بن زياد، والمفضل بن عمر، ومحمد بن سنان، وغيرهم من الغلاة.
فإذا قايسنا مكانة مسجد الكوفة بمكانة المسجد الأقصى سنرى أنّ الثاني هو الأعظم مكانة عند الله لكونه محطاً للإسراء المحمدي (ص)، كما أنّه يعدّ معْلَماً للقبلة في بداية الإسلام، وكذلك قوله (بَارَكْنَا حَوْلَهُ) وهي كناية عن أن جميع نقاط الدائرة حرم، و كذلك فيه آيات متعددة بقوله (لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا)، وللأسف الشديد يغفل الشيعة عن زيارة هذا البيت المقدَّس والأرض المقدسة (بيت المقدس) غفلا منهم لا تغافلا.
ونحن نقول: إذا قرأ المتفحص الروايات -المتعلقة بمادة البحث- في كتب الشيعة كالكافي والتهذيب ووسائل الشيعة وغيرها سيتفاجأ بوجود صراع روائي شرس وخفي بنفس الوقت حول المقارنة بين مسجدي الكوفة والأقصى، ولا أبالغ عند قولي بشراسة الصراع، فهذا الأمر يجبرك على التأمل في جميع الروايات المنسوبة عن أهل البيت (ع) أو أغلبها. ولتتضح لك صورة المقارنة بين المسجدين في هذه الروايات لنمثل أمثلة تفصيلية، ولتعلم علمًا واعيًا بأنّ الصراع بدأ منذ أنْ تشكّلَ مسجد الكوفة معلمًا شيعيًا، وتشكّلَ المسجد الأقصى معلمًا سنيًا، ولإثبات مقولتنا هذه سنستعرض أربعة أمثلة فقط لا كلها لئلا نطيل:
المثال الأول:
ـ (صحيح مسلم) بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه(وآله) وسلم: لا تُشّدُ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا ومسجد الحرام ومسجد الأقصى.
ـ الشيخ الصدوق (ره) في (الخصال) بإسناد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومسجد الكوفة.
نحن لا نظن بأنّ الروايتين المذكورتين أعلاه صحيحتان (الأولى سنّية المصدر والأخرى شيعية)، لأن النبي (ص) لم يُحرَّم أو يُكْرِّه أن يَشُدَّ المسافر راحلته لأي مسجد ولأي مكان ولأي تجارة، ولو كان الرسول (ص) يحكم بالحرمة أو الكراهة للسفر إلى مسجد من مساجد العالم لأكّد ذلك ببيان الحكم الشرعي بشكل مكرّر وفي حالات متعددة وأوقات مختلفة.
فقد أوجد العلماء تخريجا لهذه الرواية، التي لا تحتاج إلى تخريج لمخالفتها للقرآن والعقل السليم من عدة زوايا:
ـ الأولى: مخالفتها للسيرة المتشرعة، وهي تعظيم المساجد بشكل عام، حيث يكون السفر للمساجد مصداقا من مصاديق التعظيم، وهو راجح عند العقل السليم أو فقل: عند العقلاء.
ـ الثانية : مخالفة الرواية للآيات الشريفة، ومن ضمنها قوله تعالى ﴿قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَ﴾ [ العنكبوت: 20] التوجيه في الآية الشريفة يبيّن حرية المسير لأي مكان في العالم سواء كان للمساجد أو غيرها، ولكن بشرط الموعظة إذا أراد الإنسان إن يكون مصداقا للآية، فلو شددنا الرحال وسافرنا إلى مسجد عظيم القدر قديم الزمن ففي ذلك موعظة وتعظيم وتقرب إلى الله.
-الثالثة: أنّ في هذه الرواية مظنّة وخدشٌ في فعل المذهب الآخر، فيعْترض أهل السنة على شد الرحال عند الشيعة إذا توجهوا إلى أئمتهم، والشيعة أيضاً يعترضون على عدم شد الرحال إلى مسجد الكوفة، وكلا الروايتين فيهما خدش، كما أن سير الرسول (ص) للمسجد الاقصى نعتبره قدوة كبيرة إلى جميع المسلمين.
وخلاصة القول أتضّحت لنا الصورة وتبيّن وجود صراع خفي بين المسجدين، وثبت بما لا يدع مجالا للشك بأنّ كل مذهب يجر النار إلى قرصه.
وأما بقية الأمثلة فسنعرضها في الجزء القادم من البحث.