يحكى أن رجلين صديقين حميمين كانا يتجاذبان الحديث تفاخرًا بأصلهما وفصلهما، حيث يهرف الأول ويغرف الثاني.
فهذا يقول إن بلادنا ومن عليها من بشر هي أفضل بلاد الأرض، ويؤكد الآخر ليرد عليه أن ديننا هو أفضل الأديان ومذهبنا أفضل المذاهب ومنطقتنا ومدينتنا وقريتنا وحارتنا وبيتينا وأسرتينا كلها الأفضل دون غيرنا، حتى يصلا إلى التفاضل بينهما ليسبق أحدهما الآخر فيقول “يا فلان مو كأنك تدخن” وغرضه من ذلك أن يعيبه ويزكي نفسه.
نسوق هذا المثال ونحن نعيش ظواهر محزنة تنخر في مجتمعاتنا خلافًا للأعراف والأخلاق والدين والأصول التي يفترض أن تكون الأسس التي يقوم عليها المجتمع الفاضل بعيدًا عن التصنيف الذي يختلقه البعض من الوهم.
لا فرق في المحصلة النهائية بين أحد سوى الزخرف الذي لا يبرر التعالي والانسلاخ عن الأصل والحقيقة وهي أننا من طين وإلى طين، وأننا أبناء رحمٍ واحد وجِرم واحد والذي لا يقاس بين أجرام الكون التي تفوقه آلاف المرات حجمًا وعظمة.
عجيب أمرنا نحن البشر، على الرغم من تفضيلنا على باقي الخلائق ونحن نصر على عكس ذلك حين نمعن في البعد عن القيم، وكأننا نضع ونقر دستورًا آخر للمساواة خلاف قول: الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، ونحن ننتهج خلاف ذلك من خلال نفورنا عن الآخر لأسباب هي أتفه من أن تذكر، فلا المال ولا النسب والحسب ولا المنصب ولا العمر ولا اللون ولا الخلقة ولا حتى النقص فيها يبرر لأحد أن يظن مجرد ظن أنه أفضل من غيره.
وما أوقح أن يصل إنسان إلى الكِبْر والغرور بدلًا من أن يحمد ربه ويشكره على أن جعله أفضل من غيره في المعيشة مثلًا أو في عرض أو طول نسبه، جاهلًا بأن ذلك ابتلاء له وليس تمييزًا أو تكريمًا أو تفضيلًا.
إن هذه الابتلاءات إذا لم تكبح في مجتمع ما فهي تؤدي عادة إلى انهيار المفاهيم القويمة وطغيان المواصفات العقيمة والتي يصبغها بعض البشر على أنفسهم ويتشدقون بها مكابرة وجهلًا، وكأنه لو تواضع وساوى نفسه بالناس فكأنما احتقر هذه المسكينة والتي يظنها نزلت من السماء معززة مكرمة دون الآخرين، وهو بها ليس سوى بشر من بين مليارات البشر الأفضل منه إن قسنا ذلك افتراضًا حسبما يقيس.
قيمة الإنسان في عبوديته لربهِ والتي خلق من أجلها أولًا وأخيرًا، وأما قيمه الأخرى فهي من العدد الذي لا يحصى إن أراد ذلك، بتهذيب نفسه ومعرفة قدره مهما ارتقى مراقي الكمال بعيدًا عن الزبرج والزخرف الذي يحلو للبعض أن يفاخر به.. عليه أن يتواضع ويتصاغر، ويدنو من الصغير قبل الكبير والمسكين قبل المكين والفقير قبل الغني، وأن يكون مثالًا للإنسان الحق الذي كرمه الله تعالى وأنعم عليه حتى يكبره الناس ويجلوه ويحترموه بدلًا من أن ينبذوه وينفروا منه، لا لسببٍ سوى أنه وضع نفسه موضع الأفضلية، وهو يدري أو لا يدري أنه سيكون في موضع الازدراء والدونية مهما كان شأنه عند نفسه.