وَلَو تَصَفَّحْتَ أَوْرَاقِي لِتَقْرَأَهَا… رَأَيْتَ تَأَمُّلَاتِي جُلَّ أَوْرَاقِي
1. الصَّمْتُ.. مِصباحٌ مُضيءٌ، يتلَألأُ بزَخمٍ مَحبورٍ حِينًا؛ ليَبعث على هَجعة الارتياح؛ ويَجلب، بترف مُنعّم، سُكْنَة الانشراح الذاتيتين؛ ومِن رُزء الحمَاقة، وسُوء السخَافة، أن يُكسَر بتَفاهةٍ وغَباوةٍ، صَفاءُ الصمت الوضّاء النضِر، بأمرٍ تَافهٍ عَسِرٍ، يُشِين حُسن مَظهرِه؛ ويُعكّر صَفو جَمالِه… فإذا كان الصمتُ ذاتُه يُمثّل نُورًا خافِتًا؛ فمِن الحكمة أنْ يملأُ ويزين رَحابة المكان المتّسع؛ ويُجمّل ويُضيء سَاحته الرحبة، إلّّا إِمداد وَهَج النور القوي الساطع… تمامًا مِثل هَجعة الليل السائِدة المُطبِقة، وظُلمة إرخَاء سُكونه الحالِكة… ومَع بداية إشراقة خُيوط أشعة الشمس العَسجديّة، تنكسر حِدّة الصمت الهزِيم؛ لتَصحُو سَائر الأحياء المُسترخِية المُتعافية، وفي مُقدّمتِها استيقاظًا، أسراب مَواكب الأَطيار المُغرّدة؛ لتَملأ صَمت وِهاد الوِديان المَنحدِرة؛ وتَغمر سائر عَتمة الغّابات الكثيفة؛ وتُترِع هجعة الجنائن، في جَنباتها المُزهرة المُنتشية، صَحوةً بَعد غفوةٍ، بانبلاج نُور الصباح الوضّاح؛ وتَنتشر في إثرِه مَواكب الأناسي المُستيقِظةِ ذاتِها، بنفرةِ الانتشارِ، وطَلبِ الرزقِ الحَلال، بعد هجعة الليل الأَلْيَل، وقَتامَة هُجود ظُلمة سُكونة المُنسدِل الأَسْحَم…
2. إنَّهُ في كلّ مَرةٍ نقوم بأداء عَملٍ يدويٍ مَا، بأريحِيّة وحَيويّة تامّة، يَتسنى لَنا تِباعًا، أنْ نَتنفّس الصعداء لهُنيهةٍ؛ ونتلمّس، بإنصافٍ ذاتيٍ، ونقدٍ ذَكي سَقطَ هَناتِ النقصِ الظاهرةِ، بشفافيّةٍ كَاشفةٍ؛ ونتفحّص مَواضع ومَنابع الإخفاق الماثِل بوُضُوحٍ تامٍ؛ لنقوم ونهبّ بتأديةِ العملِ المُنجزِ ذاتِه مَرّةً ثانيةً، بفَائقِ يُسرٍ، ورَائقِ سُهولةٍ؛ وبمزيدٍ مِن دَقّةِ المَهارة المَعهودَة، وجَودَةِ الإتقان المُنجزَة المَشهودَة!
3. لَا تَكتمِل ذُروة نُموّنا العقلي؛ وتَنضَج مَراقِي سَويّة دَواخِل فِكرنا السامِق، مَا لَم نعترِف بكَفاءة وجَدارة، بوعيٍ حَاضرٍ، ونقدٍ ذَاتيٍ ظَاهرٍ، بمنظومة إشكاليّة فَرط سَقط أخطائنا الشخصية، المُحدِقة بنا، ونزِنها ذاتيًا، مِرارًا وتَكرارًا، في مّحطّ كفّة مِيزان “رقمي” حَسّاس… قبل أن تَرمقها أعيُن الٱخرين بوضُوحٍ وجَلاءٍ؛ ويَستشعرها جَمع الحاضرين، مِن حَولنا، بنَظرةٍ ولَمحةٍ خَاطِفتين؛ ورُبما يَقرؤنها، سِرًا وصَمتًا، بمُجاملةٍ عَابرةٍ؛ ويُسرونَها بإيماءةٍ مَارّةٍ؛ ليَتم تخزينها لَاحقًا، في حّوافِظ عُقولهم الباطنة، مَصحُوبةً بلَقطة انطباع مَشينة مّهينة؛ ومُتّسمةً بغِشاوَة الغَباشَة، ونسيجِ القَتامَة!
4. وهُنَاك فِئةٌ كَسلى مِن سَوادِ الناس تَطلِب، بوَاسِع تَشدّد؛ وتَبتغِي بعَرِيض تَشدّق، قِمم مَراقي السعادة؛ وتَتمنّى، بزخم شَهيق أمانيهم الهزيلة؛ وتَترقّب بلُعَقَةِ زَفير مَطالبهم اللفظيّة، ارتقاء عَتبات زَهو مَنابر التغيير المُثلى؛ واشتهاء؛ بُغية وُلُوج مَدارِج أُبّهة صِهاء المِنصّات الفُضلى، وهم- على مِنوال سَجيّتهم الأُولى- مُحبَطِين سَاخِطِين، ومُتّكئِين تبخترًا واختيالًا، وَسط غَطرسَة وَثير أرائكهم النضِرة؛ ومُتباهِين بحَرائر زَرابيّهم الوَثيرة، دُون بَذل جَهدٍ مُبادرٍ يذكَر؛ أَو بَسط تدبيرِ سَعيٍ مُسدّدٍ مُسطّرٍ… ولو أنَّ جُموع فَيالق النمل المُجنّدة مَكثت مُسترخِيةً آمنةً في عُقر مَساكِنها المُستقِرّة؛ ونَامت مُستأنِسةً خَالدةً، في بُطون عُمق شُقُوقِها المأمونة؛ لتَناقصت وتَضاءلت أَعداد مَملكتِها طَردِيًا؛ وانقرض أسَاس وُجودِها بأمرٍ حَتمي مَقضيٍ، مِن عَلى وَجه الأرض!… ومِفتاح مَكنون السر الصرِيح المَذكُور؛ والمُعلنٌ الصرِيح المَسطُور في ظَاهر سُطور آي الذكر الحكيم: (… إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرَ مَا بِقَومٍ حّتَّى يُغيّرُوا مَا بأَنفُسِهِم وإنْ أَرَادَ اللهُ بِقَومٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِن دُونِهِ مِن وَالٍ).
5. يَعتقِد الكثيرون أنَّ الصمتَ المُطبِق المُتدبّر، هو لَحظة انهزام، وسَاعة تَوارٍ، وغَفلة عَقيمة، تَتوارد على قّصعتِها أفواه الأَكَلَة مِن الجياع، فلا تَجد لَها مَا يَسدّ رَمقَها الطامِح إلى كِسرة رَغِيف، أو فُتات قَدِيد… غير أَنَّ لحظة الصمت الشاخِصة الماطِرة هي قَطرة مُتبلورِة سَاخِنة، مُنسكِبة ابتدارًا، مِن أعماق جَوف فَورة طُوفان المُحيط المضّطرِب الهادِر، في ذُروة زَحمة الهِياج الباغِي، وغَمرة المَدّ الطاغِي، على مَتن ضفّتَيه المُتباعِدتين؛ لتمتدّ لِما حَولها؛ وتَغمرَ- قَاع الأرضِ بتباهٍ، وتُكسِي عَنان السماءِ بتعالٍ- ببَديع الحِكمَة، وأنَيق التؤدَة؛ ورَشِيق التدبّر؛ وجَزيل الارتواء؛ لِينمو شَطأ الكلِم؛ ويَخضلّ لِزامًا جَناب الفِكر؛ وتسمو بمعيّتهم النديّة سَرِيرة الإنسان المُتحضّر “مَعنًى ومَغنًى” وتتجلّى في زَهوة رَبيع أصدائِها المُتصدّرة؛ وتتسامى صَهوة أنبلَ وأجلّ عِزة كَرامةِ إنسانيّتِه السامِقة، بقول كَلمةِ الصدق؛ وإحقاقِ هَبّة الحَق؛ وإنصافِ قَدح طَويّة الضمِير… في مَهبّ رِيحٍ صَرصَرٍ عَاصفةٍ، تَستدعِي تَدخّل نَسق الصمت المُخَلِّص المُنقِذ؛ وتَستقطِب- باستِحسانٍ واستِجوادٍ- استلقاء هَيئة قارِب السكون الراسي، استحياءً واحتشامًا، بجوانحه المَضمُومة في كِلا جَانبيه، في جِنح هَدأة الشاطئ القريب، بعد انكسارِ وانحسارِ ثورة إعصار طُوفان التهوّر المُنفلت؛ وتَراجُع عَاتيات زَوبعات التدمِير الهائجة؛ وعِندئذٍ، يَتمّ، بسلَاسة وأُعجُوبة، استجلاء بَصيص استردَاد الأنفاس الخائرة؛ واستكمَال دَورة إنبات أُصُول القوادِم المتكسّرة؛ واستعادَة مَنابت المَناكِب الساقِطة، استِصوابًا واعتِبارًا!
6. ولَعَلّ أَسمى خَلوة رَوحانية الدّعاء المُتضرّع المُتذلّل في حَضرةِ كَنَفِ الباري، عَزّ وجَلّ، لَه مِن سَابق هِبة الأَجر الجزيل؛ واشتِداد هَيبة تَحَمُّس مَقام المَكانة العباديّة الروحانيّة المُجزيَة؛واستِرفاد عَطاء نَوال الثواب الأوفَى؛ واستِمناح فضل صِلَة الجزاء المُعجّل، مَا لِغيره مِن حُظوة سَائر وسَابق الصلوات المكتوبة؛ وخَالِص جُلّ الأعمال العِبادية المَفروضَة، التي تُقرّبنا، فِرَارًا ولُجُوءًا، إلى عَظمة الواهِب الجبّار زُلفى؛ وتُعرّفنا إلى تَجِلّةِ وعَظمةِ كُنه الخالق القهّار مَنزلةً؛ بإسباغ وإتمام فُيوض سَكينته؛ وإنزال شآبيب رَحمته؛ وإكمال أسمَى مَواهب نِعمته… ومَا أجمَلها مِن خَلوةٍ، تُثرِي بِحضرةِ مَجلِسها الجاذِب الفاخِر، بأندى اللّحظات الروحانية الصُّرَاح، بِأرقّ لُغةِ الاشتياق، في أْنْسِ المُناجَاةِ المُتضرّعةِ! وما أمتعَها مَن نفحةٍ تهدي ألى نزُوعِ الانجذابِ المُسارِع إلى فَيءِ المُنادَاة المُتذلّلة!… الساعِيتين طَوعًا، إلى نَزعةِ المَيلِ الصادِق، بنِيَّة بِطانة نَفْسٍ مُؤمنةٍ مُتطلّعةٍ رَاغبةٍ في طَلب إنالة وَصْل قَضاءِ الحاجة؛ وزَاهدةٍ في استِبعاد إمسَاس الضيم؛ وتائقةٍ إلى إقالة ضُر الإذلَال… بَعد أنْ أصابَها وَصَب الضّعف؛ وأنهكَها، وَجَع الوَهْن؛ وأقعَدتّها قِلّة الحِيلة؛ وأجلسَتها انقطاع الوسِيلة؛ وباعَدها احتدامِ غَلبةِ القَهر؛ وأقصَتها مِحنة تظاهُر الزمان، وإهانَة ذاتِ النفس البشرية المُحترمَة؛ وألزمَها استِحقار مَهابَة الوَقار؛ وازدرَتها، مَهانَة الاستِعلاء المُستكبِر، على مَنزلة سُمو صِبغة الكرامة الإلهية، الممنوحة لذَات شَخص العبد الصالح المؤمن… وهذا مَا لَجأت والتجأت إليه زُمرة أنبياء الله المُرسَلين الأبرَار- سَلام الله عليهم أَجمعين- بالدعاء المُخلِّص، والمُناجَاة المَستغِيثة المُنقِذَة، مِن مَغبّة الطغيان، وعَاقبة الاستِبداد؛ وإزهَاق الأروَاح… فتوجّهوا بخَالص دُعائهم المُستجَاب لِربّ العِزّة والجَلال، حِينما وَاجَهتهُم بتحدٍّ صارِخ ألسنة وأفواه-الكفَرةِ الفجَرةِ- وعَادتهُم بتصدٍّ فاضِح قُلوب فُلول أقوامِهم المَلاحِدة المُشرِكة المُنكِرة بالأزليّة الوَحدانية الإيمانية لوجُودِ الواحِد الأحَد؛ والمُتعنّتة المُستعلِية في الأرضِ، فَسادًا وبَغيًا… ! (رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ).