مما لا شك فيه أنّ لكل فرد منا سلوكًا يتميز به عن غيره من بني البشر، فتصرفاتنا وطريقتنا في التعبير عمّا نُكنُّه بداخلنا من أفكار ومعتقدات وميول إلى آخره من تلك المواصفات المتعددة، لا ريب في أنها وبدون أدنى شك هي حقوق مكتسبة للجميع كما يحق لأي فرد من أفراد أي مجتمع أن يعبر عمّا يجول بخاطره تجاه ما يحدث من مواقف وآراء تصدر عن جميع الفئات داخل المجتمع الواحد، وهذه ظاهرة لا ضير منها حتى وإن وصل الأمر إلى حد الانتقاد البناء تحت إطار العقلانية والحكمة والهدوء وبعيدًا عن التشنجات بأشكالها المختلفة بل هي بطبيعة الحال ظاهرة صحية.
ولكن ما يجب علينا مراعاته وأخذه بعين الاعتبار في هذا المضمار هو الرقي بحوارنا، وأن ننأى بأنفسنا عن التجريح والتشهير والقذف، كما نحرص أن يكون حديثنا خاليًا من السباب والشتم البغيض، كما يتوجب علينا كذلك انتقاء المفردات قبل التلفظ بها، وأن ننهى ذواتنا عن ذكر الشخوص بأسمائهم أو حتى بالإشارة لهم فهذه كلها لا تصح بل تولد أجواء مليئة بسوء النوايا وتخلق مناخًا سلبيًا مضطربًا، مما يؤدي للتنافر ونشر الكراهية والأحقاد وتفريق الوحدة المجتمعية وبعدها نصل لما لا يحمد عقباه من نتائج غير محمودة تكون وبالًا على الأطراف المعنية تجاه تلك الأحداث.
ولا بأس هنا أن نستذكر مقولة في غاية الأهمية وتعنى بإيصال وجهات النظر التي يتبناها الآخرون ولكن تحت إطار الذوق العام ومراعاة مشاعر مَن حولنا، وهي كلمات تستحق من المرء التوقف عندها وتأملها بشكل عميق لما فيها من المنطق الشيء الكثير للفيلسوف العالمي أرسطو عندما قال: “لا يكفي أن تعرف ما ينبغي أن يقال بل يجب أن تقوله كما ينبغي”.
بمعنى أنه يجب أن يتوفر للنقاش وتبادل أطراف الحديث بين شخص وآخر أو بين فرد وآخرين أو نقل معلومة بذاتها أو إيصال فكرة معينة، يجب أن يتوفر له نسيج عميق من الأدب واحترام النفس وكذلك إظهار التقدير ممن هم طرف في الحوار ويتجسد هذا المقصد باختيار مفردات تحمل في طياتها لين الجانب والأسلوب الودود والذي لا يشير لأي قساوة قد تؤدي بنهاية الموقف إلى تراكمات سلبية ومزعجة قد تصل في نهاية المطاف للمشاحنات والنفور، وهذا -لا شك- يصل بنا لشعور مليء بخيبة الأمل وضعف الأواصر الأخوية والإنسانية.
إن للمعاملات بيننا نحن البشر إطارًا محددًا، ومتفق عليه بين ذوي العقول الراشدة وهذا الإطار لا يمكن العدول عنه أبدًا إلا لمن مال عن تلك المحددات المكتسبة من خلال عوامل عدة، منها الجانب الفطري والأخلاقي والتربوي والمعزَّز أيضًا بالموروثات المجتمعية المكتسبة من رحم عاداتنا الأصيلة التي تبلورت بواسطة نثر بذورها من جيل إلى جيل بالحرص على سقايتها ورعايتها حتى تكبر وتترعرع وتصبح سلوكيات ناضجة لها معان راقية سامية تمتزج بشخصيتنا وفكرنا حتى تصل لقمة اكتمالها، وبالتالي يتمخض عن ذلك ثقافة فكرية وسلوكية عالية تحيطها أدبيات ناجحة وفائقة بجميع اتجاهاتها مغلفة باحترام الذات وتقدير الآخرين ومراعاة كل ما يتعلق بتلك التفاصيل وما تحويه سطورها من مفاهيم وقيم جمة.
إذن، ومن خلال تلك المستحبات والتي أشرنا إليها آنفًا لا يجب علينا مطلقًا إفساح المجال لألسنتنا أن تقول ما يحلو لها وألا تعبر من مخزون مغالطات تصوراتها، فكل أمورنا تخضع لنظام أخلاقي واجتماعي وفي إطار إنساني من الضروري احترامه وتقديسه، بل يحبذ بناء حاجز متين ومنيع للحيلولة دون التعرض للرموز والصفوة وولاة الأمر ورجال العلم وأصحاب الفكر والمثقفين ومن يدور في فلكهم من الذين أنتجهم حضن مجتمعنا المحلي أولًا ومملكتنا ثانيًا وأن نتعالى عن صغائر وتوافه الأمور كالقيل والقال وتتبع عثرات غيرنا والحديث عنهم سواء في المجالس أو من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها المختلفة بما لا يليق ولا يتفق مع مبادئ الخلق الآدمي، بل يتوجب علينا البحث عمّا يصلح أولوياتنا ويحقق أمنياتنا ويرفع مكانتنا وأن نستثمر طاقتنا في بناء المبدعين وتشجيع المفكرين وأن نتحمل الأخطاء التي تصدر ممن حولنا وندفع بالتي هي أحسن تجاه بعضنا لتتسع آفاقنا وتنمو مشاعر الحب والوئام بين عناصر المجتمع الواحد، وأن نترك ما قد يفسد تلك المفاهيم الحميدة بالبعد عن كل ما يعكر صفو حياتنا أو يعرقل مسيرة تقدمنا.
إذن، لا أفضل ولا أجود من الميل نحو سكينة النفس والانزواء عن أجواء التوترات والبعد عن الحروب والمعارك الكلامية الجوفاء، والتي لا يستفاد منها إلا بمزيد من الفرقة والكراهية والبغضاء، فليس من الأدوار المناطة بنا كبشر أن نعيش ونختلق لأنفسنا ولمجتمعنا مواقف سالبة لا تخدم إلا أصحاب الفكر المظلم والمعادي لكل أنواع النجاح والاستقرار والسلم المجتمعي.