سيرة طالب (٢٥)

تَطلبُ شيئًا فيُعطيك أشياء

كتب الله لنا صيام شهر رمضان سنة ١٤١٤هـ في حيّ السيّدة زينب عليها السلام، وما تزال الذاكرة غضّة طرية بعادات وتقاليد الشعب السوري عامة في هذا الشهر الكريم، فما يزال صدى الآيات القرآنية والأحاديث الشريف والسهرات الرمضانية الروحانية التي كانت تبثّ رسمياً مدّة ساعات، يتردّد في الآذان.

ومرّت ليالي الشهر الكريم كأسرع ما يكون، حتى كانت ليلة القدر (ليلة ٢٣)، حيث قمنا بأداء الأعمال بروحانية، تضرّعنا فيها إلى الله بأن يحقّق أمنياتنا، غير ناسين أصدقاءنا والمقرّبين منّا والعلماء وكافة المسلمين.
ومن ضمن ما دعوت به لنفسي أن أكون واحدًا من حجّاج بيت الله الحرام في تلك السنة، فقد روي عن الإمام زين العابدين عليه السلام في دعاء أبي حمزة الثمالي: “وَارْزُقْنِي حَجَّ بَيْتِكَ الْحَرامِ فِي عامِنا هٰذَا وَفِي كُلِّ عامٍ وَزِيارَةَ قَبْرِ نَبِيِّكَ وَالْأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ”.

وعن علي عليه السلام أنه قال: *”سلوا الله الحج في ليلة سبع عشرة من شهر رمضان، وفي تسع عشرة، وفي إحدى وعشرين، وفي ثلاث وعشرين، فإنه يكتب الوفد في كلّ عام ليلة القدر، وفيها يفرق كلّ أمر حكيم”.* دعائم الاسلام ج ١ ص ٢٨١.

ولما كانت يدي صفرًا من تكلفة الحجة، ولا حتى غيرها، سوى مقدار قوت يومي وربما نقص، جال في ذهني في تلك الليلة المباركة مقطع دعاء أبي حمزة، فدعوت الله سبحانه به – غير مرّة – أن يرزقني رزقاً خالصاً وخاصًّا لأحج هذه السنة، متيقّنًا بإجابة الدعوة، وهو الكريم الذي قال: *{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}* [سورة غافر: 60].

ما أسرع الإجابة!
تصرمت أيام شهر الله، ثم غدونا إلى جوائزنا في يوم من *”أيام أربعة تزفّ إلى الله (عزّ جلّ)، كما تزفّ العروس إلى خدرها”،* كما هو منطوق بعض الروايات، حيث عشنا مظاهر عيد الفطر في أنسٍ.

وخلال شهر شوال حضر شخصان من القديح الحبيبة إلى حيّ السيدة زينب عليها السلام بقصد زيارتها قربة إلى الله، وهما: حمزة الفردان (أبو محمد)، وسلمان الحصّار (أبو محمد).

في أثناء حديثنا معهما ذات جلسة قال لي أبو محمد الفردان ـ وهو المعروف (حملدار) أو رئيس الحملة ـ : في كلّ سنة أتبرع لشخصين اثنين يحجّان معنا، وأنت في هذه السنة أحد الاثنين، إن شاء الله، فما رأيك؟
فقلت: موافق بإذن الله.

ثم وضّح الفردان مناسبة مجيئه للسيّدة قائلاً: أمس، وأنا خارج من بيتنا في القديح، نويت السفر إلى المدينة ومكة لأهيئ سكن الحجاج في هذه السنة، فالتقيت هذا الرجل (الحصّار) وقال لي: سافر معي ثلاثة أيام إلى سورية، أسافر معك المدينة.

فقلت له: لا بأس.
ثم منّ الله علينا التشرّف بزيارة حرم السيّدة زينب عليها السلام ببركة اقتراح هذا الرجل الطيّب.
فقلت للفردان: لا أشكّ أنّ مجيئك إلى سورية لغرض الزيارة ظاهرًا، وواقعًا كان إجابة سريعة لدعائي في ليلة القدر بأن يمنّ الله عليّ بأداء الحجة هذه السنة.
فقال: هذا أمر غريب وعجيب!.

إلى الدّيار المقدّسة
وفي آخر شهر ذي القعدة ذهبت إلى المدينة مباشرة ولقيت هناك حملة حمزة الفردان وسكنت في الغرفة المخصّصة لطلبة العلم، وكان فيها العلّامة الشيخ عباس العنكي، والشيخ حسن الجنبي (حفظهما الله)، وكانا مرشدي الحملة، وأما أنا فواحد من حجّاج الحملة فحسب.
ومن رحاب طيبة الطيبة، انتقلنا إلى مكة المكرّمة، وأثناء انتقالنا من عرفة إلى مزدلفة، اقترح الشيخ عباس أن أذهب إلى المسلخ بمرافقة أخيه الحاج سلمان العنكي (أبو علي) لذبح الهدي نيابة عن حجاج الحملة تسهيلاً عليهم.
ولتسهيل إتمام هذه المهمّة، أخذ الشيخ العنكي الميكرفون المتنقل ووجّه نداءً لكلّ حجاج الحملة قائلاً: تسهيلاً للحجاج، فإنّ الشيخ علي الفرج سيذهب إلى المسلخ ويذبح عمّن يريد بالنيابة، ولكن بشرط أن يوكله الحاج لذبح الهدي، مقابل مبلغ 500 ريال عن كلّ حاج، فإن نقص المبلغ سيدفع عنكم من أمواله، وإن زاد فله الربح، وسيرافقه أخي سلمان.
لما سمعت هذا المقترح من الشيخ، ذهبت إليه مباشرة وهمست في أذنه: أنا – يا شيخ – لا أملك شيئاً، فلو نقص المبلغ، فكيف أسدّد العجز في الأموال؟!
قال لي بهدوء: لا تقلق يا شيخ، فأغلب الظنّ أنّ ثمن الخروف يتراوح ما بين٣٠٠ إلى ٣٥٠ ريالاً، ولا يزيد، فتوكل على الله.
استجابت مجموعة كبيرة من الحجاج لاقتراح الشيخ عباس، وبادروا في إعطاء الشيخ عباس نفسه بالأسعار المعقولة، وبعد جمع المبلغ سلّم الشيخ المبالغ لأخيه أبي علي سلمان.

لكلّ مجتهد نصيب
وجاء يوم العيد، ورمينا الجمرة الكبرى، مباشرة ذهبنا إلى المسلخ مشياً على الأقدام، وكان المسافة إليه بعيدة جدًّا، بما يقرب من ساعة أو أكثر، وهناك ذبحنا ما يقرب من ١٠٠ خروف خلال ساعات طويلة امتدّت من الصباح إلى العصر، وأنهكنا التعب الشديد.
شربنا في أثناء طريق عودتنا ماءً بارداً عذباً زلالاً، ثم جلسنا فوق الرصيف بغرض الراحة، ولم يخطر ببالي وقتها المبلغ الزائد من الأموال.
في تلك الأثناء رأيت رفيقي أبا علي سلمان يخرج أموالاً من حقيبته الصغيرة وقسّمها نصفين؛ نصف لي والآخر له، وكان نصيبي 6000 ريال أو أكثر بقليل.
لما رجعنا إلى منى، لم يسألنا أحد عن المبلغ، سواء أكان ناقصاً أو زائداً، ثم بتنا في تلك الليلة الهادئة منهكين، كأنّما تيبّست أعضاؤنا، سوى من أنفاس صامتة.
وبعد أن استيقظنا لصلاة الصبح وصلّينا، استرجعت في ذهني ما كان منّي في ليلة القدر حين دعوت الله لتمام توفيق حج بيته الحرام، وكيف سهّل الله أمر تلك الحجة، بل أعطاني فوق ما طلبت وتمّنيت.

حُسْنُ الظنّ عبادة
وهكذا هو كرم الله اللامتناهي مع عباده دائماً، لا يتركهم دون لطف أو إجابة دعوة أو دفع بلاء، وإن تأخرت إجابة الدعوات عنهم، فلأمر يعلمه الله وحده، ووظيفة العباد في هذه الحال هي حسن الظنّ بالله والإلحاح عليه سبحانه بالدعاء وعدم اليأس من رحمته، فقد قال سبحانه وتعالى: «أنا عند حسن ظن عبدي المؤمن بي إن خيرًا فخيرًا وإن شرًا فشرًا». الكافي، الشيخ الكليني ج ٢ / ص ٧٢
ثم رجعت إلى وطني الحبيب القديح تغمرني مشاعر الفرح لأداء الحجة، ولم أمكث سوى بضعة أيام لأشدّ الرحال مرّة أخرى إلى سورية بشوق جارف لمواصلة تحصيل العلم.




error: المحتوي محمي