سِيبَويه.. الفَارِسِيُّ الأَصلِ، بلغَ بهِ وَلَعُهُ باللغةِ العربيةِ إلى أن لُقِّبَ بإمامِ نُحَاةِ العربية مُنذُ عهدِهِ حتى يومنا هذا، لِشِدَّةِ دِقَّةِ وصفِهِ الصَّوتِي للعربية، على الرغمِ من مُدَّةِ حَياتِهِ القصيرة، التي زادت قليلًا على الثلاثة عُقُود.
وَبِسَبِبِ شُهرَتِهِ التي ملأت الآفاق، دُعِيَ سِيبويه إلى مُنَاظَرةٍ في قصر الخِلافةِ بِبغداد بِصِفَتِهِ إِمامًا للبصريين، قابل فيها الكِسَائِيّ – إمام الكوفيين، لِيبدأَ الكِسَائِيّ بِسُؤالِ سِيبَويْه عن مسائل منها:
«كيف تقول في: قد كنتُ أحسبُ أنَّ العقربَ أشدُّ لسعةً مِنَ الزُّنْبُورِ (الدبور)، فإذا هو هي، أو فإذا هو إياها؟»
فأجاب سِيبَويه: فإذا هو هي، وَلا يجوز النصب.
فعارضه الكِسَائِيّ بالقول: لقد أخطأت، بل الصواب في النصب ونقول.. فإذا هو إياها.
وسأله أيضًا عن:
«خرجتُ فإذا عبدالله القائمُ أو القائمَ؟»
فأجابَ سِيبَويه بِالرفعِ أيضًا، فعارضهُ الكِسائيّ مرةً أخرى وَقالَ إن العربَ يرفعونها وَينصبونها أيضًا، فسألهما وزيرُ الرشيد عن طريقةِ معرفةِ الصوابِ وَكُلٌّ منهما إمامٌ في هذا المجالِ لِقومه، فما كان من الكِسَائِيّ إلا أن قال:
«نسألُ الأَعرابَ –الذين ينطقون العربية السليمة بالفطرة– وهُم ينتظرون بالخارج».
وَلم يدرِ أحدٌ بمؤامرةِ الكِسَائِيّ التي دبَّرها مع أولئك الأعراب، ليقولوا بِصِحَّةِ رأيِه، وَيُشِيرُوا بِخَطَأ سِيبَويه، ليسري نبأُ خسارةِ سِيبَويه بينَ الأقطارِ سريعًا بعد ذلك.
فَطِنَ سِيبَويه إلى مؤامرةِ الكِسَائِيّ، فلم يستطِع قَبُولَ تدنيسِ شَرٍّ كهذا لِمحرابِ العِلمِ وَالعُلمَاء، فاغتمَّ غَمًّا شديدًا آثرَ بعدَهُ الرحيلَ إلى خُراسان، إلا أنَّ غَمَّهُ لم يُمَكِّنه مِنَ الوُصُولِ، فَمَاتَ عَلى إِثرِهِ في الطريق.
قِصَصُ الحَسَدِ وَالحِقدِ بينَ الناسِ كثيرة، حتى إن القرآنَ الكريمَ ذكرَ بعضًا منها، كقصةِ قابيل وَقتلِهِ أخيهِ هابيل، وَقصةِ يوسُفَ عليه السلام وَإخوتِه، لكن اللافت في قصةِ سِيبَويْه هو حسدُ من كانَ مكافئًا له في المنزلةِ العلميةِ وفي نفسِ الحقبةِ الزمنية، أي أنَّ الكِسَائِيّ كانَ إمامًا للكوفيين في اللُّغة، غير أنه لم يُطق وجودَ إمامٍ آخر في مكانٍ آخر في نفسِ الوقت، بل جَعلَ مِنهُ حبَيسًا لنفسِهِ الأمَّارةِ بالسوء، ليقضِيَ سِيبَويْه بِغَمِّه، و يُخَلِّدَ التاريخُ مكرَ الكِسَائِيّ وحسده بدلاً من عِلمِهِ.
دناءةُ النُّفُوسِ لا تقتصرُ على الأقرانِ معَ بعضهِم، بل هِيَ موجودةٌ حتى بين الرُؤساءِ وَمرؤوسيهِم، في الوقتِ الذي يجبُ أن يسعى فيه الرئيسُ إلى تنميةِ مهاراتِ مرؤوسيه ومؤهلاتهم، للتقدُّمِ بالمستوى الخَدَمِيِّ وَالوظيفي للفريق كافة، تراهُ ساعيًا إلى إحباطهم وتثبيطِ هممهم، وَناشرًا الشائعاتِ وَالأكاذيبِ بينهم، وَمانِعًا لهم من كُلِّ فُرصةٍ من شأنها تَقَدُّمُ العطاء للمنظومة وزيادته، وَيُفَرِّق لِيَسُد فيبقى مُتَرَبِّعًا على كُرسِيِّه دون قِيَام.
الدناءةُ تلكَ تؤدي إلى إحدى نتيجتين، الأولى خلقُ بيئةٍ بائسةٍ غير صحيةٍ للموظفين وَأصحابِ الطاقات العالية، تُحفِّزُ على الكسل وَالعمل “على قَدّ الراتب فقط”، دون سعيٍ للتطوير والتقدم، وَالثانية هي عزوف هذه الطاقات عن العمل في المكان وَاقتناصُ فُرَصٍ أخرى محليةٍ أو عالميةٍ قد تصل إلى الهجرة من الوطن في بعض الأحيان، أو اختيار فُرَصٍ أقل من مستوى إبداعاتهم في أحيانٍ أخرى، فيشترون بها “دماغهم”.
قد يرى البعض في كلتا النتيجتين استسلام ضحية هذا الفعل بشكل أو بآخر، ففي الأولى يكون الركون للسباحة مع التيار وليس ضده، وفي الثانية الهروب من المشكلة بدلًا من تحديها وَإثبات القدرات في نفس المكان، وَهذا الجانب الظاهر من المعضلة فقط، لكن لها جانبًا مخفيًا قد تكون الضحية فيه مُسَيَّرَةً وليست مُخَيَّرة نحو القرار، لاعتباراتٍ عائليةٍ أو اجتماعيةٍ أو حتى شخصية، تكون الطرف الأقوى في المعادلة حين تحديد الاختيار.
وَرُجُوعًا إلى قِصةِ سِيبَويْه، التي تنبثقُ منها عِدَّةُ تساؤلات.. لو كنتَ مكانِ سِيبَويْه، هل كنتَ سَتَدَعُ حاسِدًا مثل الكِسائيّ ليوقعك في شباكِه؟ وَهل كنتَ ستصمتُ حتى لو انتشرَ بينَ الناسِ نبأُ خسارتِك التي تمَّ التخطيطُ لها بِمكر؟ وَهل كنتَ ستُؤثِرُ الرحيلَ بسببِ من عَلَت قلوبَهُم الدناءة؟ والأهم.. كيفَ ستُعَلِّمُ أبناءك هذا الدرس؟ وأهمية التأمل وَالنظر إلى الاعتبارات المختلفة بشكلٍ شموليٍّ قبل اختيار أيِّ مسارٍ حياتيّ؟!