حكايتها تشبه تلك القطع الفنية التي تصنعها، خيوط قد تظنها في بداية الأمر لا علاقة لها ببعضها، غير أن كل خيط منها يعانق أخاه، وأخوه يعانق أخًا آخر، وهكذا حتى تكتمل القطعة وتصبح تحفة رائعة، على الرغم من أنك حين تنظر لبداية الخيط ما كنت لتظن أن نهايته ستكون هكذا.
لقد قادتها رحلتها -في تعلم اللغة الإنجليزية- إلى طريق آخر مختلف، طريق معبد بتلك الخيوط، وعوضًا عن أن تفكك طلاسم اللغة التي ذهبت لدراستها، عادت من رحلتها وهي تعقد الخيوط التي التقت بعالمها صدفة، والصدفة في حكاية ضحى عبدالغني أخضر، كانت خيرًا من كل تخطيط خططته لمستقبلها، بل كانت بابًا جديدًا أدخلها عالمًا مختلفًا عن العالم الذي كان في مخيلتها.
فـ”ضحى” التي تحمل شهادة في العلاقات العامة والإعلام، وأخرى في اللغة الإنجليزية من كندا، لا تمارس اليوم أي مهنة تتعلق بشهادتيها، بل أصبحت اسمًا بارزًا بالقطيف في صناعة “المكرميات” والتدريب على تعليمها.
البداية.. خليط عالمي
في عام 2015م سافرت “أخضر” إلى كندا لتلتحق بأحد المعاهد لدراسة اللغة الإنجليزية هناك، ولأنها اعتادت السكن مع عوائل في سفرها للدراسة، فقد سكنت في سفرتها تلك مع عائلة مكسيكية، وكانت صناعة المكرميات حرفتهم، وهناك تعرفت على ربة تلك العائلة، وهي سيدة تدعى “كارن”، كانت تمضي أغلب وقتها برفقة خيوطها مستمتعةً بما تنتجه.
علاقة الحب التي ربطت “كارن” بخيوطها، جذبت ضحى كثيرًا، حتى عرضت عليها صاحبة السكن أن تعلمها تلك الحرفة، وهنا كانت البذرة الأولى لحكاية العلاقة التي بدأت بينها وبين المكرميات، فقد تعلقت بها كهواية، واتخذتها كتسلية لا تعيقها عن دراستها.
تقول “أخضر” لـ«القطيف اليوم»: “بعد أن تعلمت الغرز الأساسية، بدأت العمل كهواية أعود لها كلما كان لدي وقت فراغ، وأمضيت سنتين وأنا أحرص على تعلم جميع الغرز، والحمد لله بعد ذلك أصبحت متمكنة من هذا الفن بعدما تدربت على بدايات صحيحة، استطعت بعدها أن أنقلها للأخريات الراغبات في تعلمها”.
الصدفة مجددًا.. من الهواية إلى التجارة
عادت إلى موطنها تبحث عن وظيفة تناسبها، وتملأ وقت فراغها، أما صديقاتها “المكرميات” فكانت ضيوف تسلية تصافحها كلما ضجرت، حتى جاءت جائحة كورونا وحولت زياراتها لها كضيوف، إلى مقيم دائم بين يديها، خصوصًا بعد موت والدها -رحمه الله- في تلك الفترة.
تحكي حكايتها تلك قائلة: “اعتدت أن أسامر خيوطي وتسامرني كلما شعرت بملل أو وقت فراغ، إلا أنني بعد أن توفي والدي عقدت معها علاقة صحبة دائمة، فأنا كنت متعلقةً جدًا بأبي -رحمه الله-، وفقده جعلني أشعر بحزن كبير، ولأن الظروف وقتها كانت تلزمنا بالحجر المنزلي، لم أجد سبيلًا لتخطي حزني وملء وقتي غير خيوطي، وبدأت في توطيد العلاقة بيني وبينها، محاولةً أن أتقنها بشكل أكبر، حتى كان لي ما أردت”.
وتضيف: “أنا في الحقيقة لم أمارس صناعة المكرميات ممارسة تامة؛ فلم أكن أعرف جميع الغرز، إنما أشياء بسيطة مثل الغرز الأساسية الرئيسية، والغرزة المربعة فقط، وكم غرزة تابعة لها، وحينها كنت أعد الأمر مجرد تسلية ولم أفكر في بيع منتجاتي، لكن كثرة طلبات من حولي من الأهل والصديقات والجيران جعلني أقرر أن أبدأ مشروعي”.
قطع تسوّق نفسها
تعد “أخضر” قطعها هي المسوق الأساسي لعملها؛ فهي لم تعتمد على جهة أو أشخاص محددين للتسويق لها، بل منتجاتها هي من فعلت ذلك، توضح ذلك بقولها: “حين كنت أقدم بعض قطعي كهدايا للصديقات يبدأن بعرضها على أهاليهن وصديقاتهن، لأتفاجأ بعدها أن معارفهن يتواصلن معي للطلب مني”.
مكرمياتها تسافر خارج خريطة الوطن
بدأت مكرميات ابنة القطيف تسافر إلى أبعد من حدود المحافظة، بل إلى أبعد من حدود المملكة، حيث خلق ذلك داخلها إصرارًا على أن تبدع أكثر فيما تصنع، وأن تتخذ من هوايتها مصدر دخل لها.
تقول: “أخذت أعمل يوميًا ما لا يقل عن ست ساعات بعد أن وجدت إقبالًا كبيرًا، لدرجة أنني بدأت أشحن إلى دول مختلفة كالبحرين والكويت وقطر والإمارات، وكذلك كان لدي أكثر من شحنة خارج دول الخليج مثل كندا وأمريكا، هذا الإقبال جعلني أعتمد المكرميات كمصدر رزق أساسي لي، والحمد لله نجحت في ذلك، وأصبح لدي مجموعة كبيرة من المتابعين والزبائن المستمرين في الطلب أكثر من مرة”.
خيوطها أصعبها
توضح “ضحى” أنها لم تجد أي صعوبات في تعلم هذا الفن؛ وذلك لشغفها به وحبها له، مما جعلها ترى كل شيء سهلًا وتتحدى أي صعوبة تواجهها، غير أنها تذكر أن الصعوبة الوحيدة التي واجهتها كانت عند عودتها للوطن، ورغبتها كذلك في نقل الفن الذي تعلمته في كندا إلى هنا؛ حيث شعرت بصعوبة كبيرة لعدم توفر الخامات التي تستخدمها وهي خيوط القطن الأوروبي، إذ إن الموجود هنا جميعه قطن صيني ممزوج بنسبة من البوليستر -حسب وصفها-، والذي لا يتميز بجودة عالية، مما اضطرها لأن تطلب من صديقتها شحن نفس أنواع الخيوط التي تعلمت عليها، وهنا كان موطن الصعوبة الحقيقي، حيث توضح ذلك بقولها: “الصعوبة كانت في الشحن بحكم أن المصنع كان يعطيني 30 كيلو شهريًا، وكان استخراجها من الجمارك صعبًا، فضلًا عن وقت الانتظار الطويل، الذي يصل أحيانًا إلى شهرين حتى أتسلم الشحنة”.
تنوع موثّق
وثّقت “أخضر” حسابها التجاري في وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية؛ وذلك لكسب ثقة زبائنها بصورة أكبر، كما أن ذلك فتح لها مجال المشاركة في المهرجانات الرسمية كالفعاليات والمهرجانات في محافظة القطيف وخارجها، بل إن قدميها وطئتا مهرجانات خارج القطيف قبل أن تشارك في بلدتها الأم.
وتعرض في حسابها “dh.macrame” أنواعًا مختلفة من المكرميات وبأحجام مختلفة؛ كبيرة جدًا وأخرى صغيرة أو متوسطة الحجم.
وحول ذلك تقول: “منذ أن بدأت العمل بصورة جادة حتى اليوم، أحاول باستمرار أن أجدد ما أصنع، بشكل دوري في كل شهر أحاول عرض قطعٍ جديدة بخامات جديدة أو بإضافات جديدة وقياسات مختلفة؛ كي لا يكون الحساب مملًا”.
ومن بين القطع التي تصنعها؛ ميداليات المفاتيح، ميداليات مرايا السيارات، حامل الجوال، حامل الأيباد، كارد هولد حامل بطاقة العمل، تعليقات للنباتات الداخلية والخارجية، أرجوحات معلقة، كراسي معلقة، مفارش طاولات، قواعد أكواب، تعليقات جدارية، التصميمات البوهيمية، سجادات، مخدات، ملابس خفيفة، أساور، قلادات، وإكسسوارات شعر.
تتدلى في عقارب الساعة
تبين “أخضر” أن عقارب ساعة صناعة المكرميات لا تدور في وقت محدد؛ فطول مدة العمل وقصرها تعتمد على نوع الغرزة وحجم القطعة، مشيرةً إلى أن الوقت الذي تستهلكه بعض الميداليات لإنهائها نصف ساعة، فيما تأخذ ميداليات أخرى ساعة أو ساعة ونصف، وذلك على حسب عدد أمتار الخيوط وكمية ونوعية الغرز.
جميع مواسمها ربيع
“مكرميات ضحى” تزهر في كل المواسم، فهي تعتبر أن جميع أشهر السنة “ربيع” لا يشاكسه صيف ولا خريف ولا حتى شتاء أبدًا، تقول: “منذ أن بدأت عملي إلى الآن وأنا أعتبر جميع الأيام مواسم تسويق ممتازة، ولله الحمد، لم أصادف انقطاعًا في طلبات زبائني، وذلك يعود لسعيي أن يكون لدي أكثر من فكرة في مشروعي، ولم أعمد لأن أبيع قطعًا للاقتناء الشخصي فقط”.
وتضيف: “اعتمدت فكرة التوزيعات في المناسبات كالزيجات، وعقد القران، واستقبال المواليد، فهذه المناسبات تكون على مدار السنة، وعلى السبيل المثال تأتيني الكثير من طلبات استقبال المواليد، أو أعياد الميلاد طوال العام”.
وتمضي في حديثها: “حاولت كذلك أن أطور من مشروعي؛ بحيث أصمم بطاقات خاصة بالمناسبة، وذلك بحكم أنني أحب التصميم وأحب الفوتوشوب، ولأنني -أساسًا- كنت مصورة فذلك ساعدني على إبراز الصور بصورة واضحة ونظيفة وجميلة تجذب الزبائن”.
من أناملها إلى أنامل 85 سيدة
نقلت “ضحى” حرفتها من بين أصابعها، إلى كفوف 85 متدربة، بينهن 15 من ذوات الإعاقة، و20 مستفيدة من الضمان الاجتماعي، وقد انطلقت في الدورات التدريبية منذ عام 2020م، وتستقبل في كل دورة 4 متدربات فقط، تقول حول ذلك: “أقتصر على عدد قليل، بحكم أنني أدربهن على شغل يدوي، لذلك لا أريد أن يكون العدد كبيرًا، يكفي أن أكون بين اثنتين عن يميني واثنتين عن يساري، وأعطيهن الدورة بالكامل؛ أساسياتها من البداية حتى النهاية.
وتضيف: “بحكم أن توفر الخيوط شيء صعب، فإنني أوفر جميع المستلزمات لمتدرباتي، والحمد لله يخرجن من الدورة بثلاثين عملًا، وهذه الثلاثون خاصة لكل متدربة”.
وتعبر عن سعادتها، وهي تستحضر واحدًا من المواقف التي صادفتها في دوراتها، حيث تقول: “من الأشياء المميزة في الدورة، أن إحدى المتدربات كانت تعرض المنتجات التي تشتغل عليها معي، على حسابها في برنامج سناب شات، وكانت تبيعها، وحين أنهينا الدورة كانت قد سددت قيمتها كاملة من المنتجات التي كانت تصنعها معي، لأننا كنا كل يوم تقريبًا ننتج من عملين إلى 3 أعمال، وقد أبهرتني جدًا بتصرفها، وحسن تدبيرها”.
كأي حرفة
تؤكد “أخضر” أن تعلم المكرميات مثله مثل تعلم أي حرفة في الحياة، لا نستطيع أن نحدد إن كان تعلمها سهلًا أم لا، مشيرةً إلى أن ذلك يعتمد على الشخص نفسه؛ هل لديه رغبة في العمل أم لا، هل يحب هذه الحرفة ولديه قرار بالاستمرار فيها أم لا، وهل سيتحدى كل الصعاب في تعلمها، أم سيربط يديه ويقف مكتوفًا أمام أية عرقلة تعترضه.
وتضيف: بالنسبة لي -الحمد لله- أعطيت كل متدرباتي تدريبًا كاملًا على جميع الغرز من الأشياء الصغيرة إلى التعليقات الجدارية، وكلهن تخرجن بإبداع، بالفن، بالإنجاز، كما أن أغلبهن فتحن حسابات لأنفسهن على الإنستجرام لبيع المكرميات، لذلك أنا فخورة جدًا بمتدرباتي وسعيدة جدًا بأنني استطعت أن أوصل لهن المعلومات بطريقة مفهومة.
مكرمياتها تحكي
تختبئ الكثير من القصص بين أصابع “ضحى” وخيوطها، تسترجع واحدة من تلك القصص عن أول قطعة أنتجتها، تقول: “عادة في تعلم عمل ما أنت تبدأ بالأسهل، أما أنا فتجاوزت بتعلمي جميع الأحجام الصغيرة والغرز البسيطة واتجهت مباشرة إلى تنفيذ أرجوحة، ولم أصنعها بمفردي بل كانت صديقتي “كارن” معي خطوة بخطوة في اتصالنا عن طريق وسائل التواصل عبر الإنترنت، وقد استغرقت مدة طويلة لإنجازها، فقد اقتطعت من وقتي قرابة 4 أشهر، ومازلت أحتفظ بها وسأظل أحتفظ بها لأنها ذكرى مميزة لأول قطعة صنعتها بنفسي، والجميل في الأمر أنني علقتها في حديقة منزلي، وأي شخص يدخل البيت يجرب الجلوس عليها فهي تتحمل حتى وزن 100 كيلو”.
وتسرد أيضًا إحدى قصص مكرمياتها المميزة، لكن هذه الحكاية لم تتقاسمها مع بنات جنسها فقط، بل كان شريك حكايتها واحدًا من أبناء آدم، تقول: “من القصص المميزة أن ولدي علي -عمره 13 عامًا- ما شاء الله تبارك الله كان دائمًا يراقبني وأنا أشتغل بخيوطي وكان يجلس معي لمساعدتي، وفاجأني في يوم من الأيام أنه يشتغل على الغرزة الأساسية، كما صمم ميداليات بنفسه، هو حقيقة لم يغلق الميدالية، لكنه صنعها كاملة للنهاية وأعطاني إياها لأغلقها له، وبعد فترة أصبح يشتغل معي في الغرز المربعة كلما كان لديه وقت فراغ، ما أدهشني أنه فعلًا أبدع في هذه الغرزة دون أي تدريب، فقط بالنظر إليّ ومشاهدتي”.
حلم أن تكون يدًا لذوي الاحتياجات
تحلم “أخضر” بأن تكون مدربة معتمدة من الجهات الرسمية، تقول عن حلمها: “وهدفي الأول قبل أن أكون مدربة معتمدة، هو أن أقدم دورات تطوعية لفئة ذوات الاحتياجات الخاصة دون أي مقابل”.
وتتابع حديثها: “أبحث عن الجهة الرسمية التي تستطيع أن تأخذ بيدي لتدريب تلك الفئة، خاصة بعد تجربتي في تدريبهن عمومًا، وبعد تجربتي الخاصة مع إحدى متدرباتي من ذوات الاحتياجات الخاصة، وكانت أكثرهن براعةً، كان شغلها دقيقًا جدًا، ولمست حبها للأشغال اليدوية”.
وتمضي في حديثها: “ولأنني أرى صعوبة خروج هذه الفئة من منازلهن إلى العمل وكسب رواتب شهرية أمرًا صعبًا، كما أن ركوبهن السيارة وخروجهن من منازلهن صعب، فإنني أجد أن وجودهن بالبيت وممارسة عملهن اليدوي من داخل سكنهن سيفتح لهن مجالًا وباب رزق، لذلك أحب أن أضم مجموعة من ذوات الاحتياجات، وأدربهن على يدي تحت مظلة جهة رسمية أو حكومية، كما أتمنى من أي شخص يرى رسالتي هذه ويعرف أشخاصًا معنيين من الجهات الحكومية أن يتواصل معي؛ كي أستطيع أن أتواصل معهن، لبدء مشروعي الخيري التطوعي لتدريب مجموعة من ذوات الهمم على فن المكرميات لفتح باب رزق لهن”.