صحوة العقل الواعي.. بين الصرعة والنشوة

يُقسّم ويُصنّف العلماء طبيعة عَمل العقل البشري إلى ثلاثة مُستويات رَئيسة، وقد شبّهها الطبيب والعالم النمساوي النفساني الشهِير: سِيجمُوند فُرُويد، بكُتلة الجبل الجليدي: حَيث في أعلى قمة الجبل، يَجثم (العقل الواعِي) وتَربط كُتلته النابِهة المُستيقِظة، بمُستوى كُتلة (العقل الباطِن) المُتوسطة الحُبلى؛ وفي قاع الجبل، يَقبع (العقل اللاواعِي) الحارس الأمين… ويُلاحظ أنَّ العقل الباطن، يُمثل حَلقة وصلٍ، وبَوابة مُرورٍ بين ضفّضتي المستويين: الواعي، واللاواعي… وحيث كل مُستوى مِن الأجزاء الثلاثة المذكورة المُتآزِرة المُتعاضِدة، له كَامل حِصته، وتَام نَصيبه مِن خَصائص، ووَظائف، ومَهام، وأَسرار، وقَوانين مُختلفة مُستقلّة…

وأَرَى أنَّه مِن وَاسع الحِكمة المُتاحَة، أنْ أشرع بشيءٍ عامٍ مُجملٍ، في تَقدِيم الإفادة الكاشفة؛ وتَصدِير التوضِيح الصّريح، عن كلِ مُستوىً، على حِدَة، بادِئًا بمُستوى العقل الباطن، الأكتر تُخمةً، والأعظم امتلاءً… ويَنشط دومًا على مَدى أربعٍ وعشرين سَاعةٍ؛ لا يَملّ، ولا يَكلّ، بتدفقِ نّسَقِ ونَضَدِ المعلومات والرسائل، المَسمُوعة والمَرئِيّة، بأصل هَيئة أشكالِها الشاخصة، وأيقونة أنماطها الماثلة، وأَساس بنائِها الخام، وبصيدٍ دَقيقٍ فَائقٍ لِلَقطاتِ حاضر صُورِها “الفوتوغرافية” الراهِنة، دُون أدنى مُواربةٍ، أو أقلّ مُخادعةٍ… وبعبارةٍ أُخرى، يَقوم العقل الباطن بتلقائيةٍ “مِيكانيكيةٍ” نشِطةٍ، باستقبالِ سَيلِ الأحداث المنهمِر؛ واستضافة سَكب الوقائع المستمِر؛ واحتضان كَمّ الرسائل الوارِدة مَهلًا، والقادِمة سَهلًا، وبطاقة سَعة تخزينيّة عَالية جِدًا، دُون سَابق تصفيةٍ، أو لَاحق “فلترةٍ” أو سَالف التفاتةٍ تُذكر، لمُحتوى ومَضمون ظاهِر ولائِح رَتلِ مَواكب لَقطات تلك الرسائل المُستقبَلة، جُملة وتَفصيلًا!

هذا، ومَمّا يُذكر أَنَّ العقل الباطن، يَنوء بحِملٍ ثَاقلٍ ثَقيلٍ، لِما يَنطوي ويَحتوي عَليه، ويضطّلع بِه مِن مَخزون ومَكنون مِن فيضٍ مِن شتّى أنواع وأصناف، المَكبُوتات، ونسَق المَقمُوعات، ونُظم المَحبُوسات، في جَوف حَافظتة الأُم الحُبلى… فهو يُزوِّد العقل الواعي رِفدًا، ويُطلِعُه إفضالًا، بتقارير مُفصّلةٍ عن سَلاسِل الأحداث السابقة، وإفادات رَوابط الوقائع الماضِية… وعلى ضَوء تلك الصور الذهنيّة المرسَلة؛ ووَهج وَمضات “الفلاشات” النافذة زَحفًا حَثيثًا، إلى خط فَلترة العقل الواعي، ليُصيغ ويُذيع رائق أصدائها المفلترة، بما تُوحِيه له ظاهر وشاهر رُؤى ومُستخلصلات نَاضجَةٍ رَصينَةٍ مِن عُصارَة لَباب العقل الواعي، لمُخرَجات مَواقف جَريئة، ومُعطَيات تصرّفات حَكيمة، تُعبّر في صَميم جَوهر مُجملِها السمح، عن سَمَاحة النفْس، ولَطَافة النفَس؛ وتُنبئ عن رَصانة ومَتانة القرار؛ وتُخبر عن حِكمة وحَصافة الاختيار؛ وأحيانًا، قد لا تُسعفُنا لهُنيهةٍ، يَقظة فلترة العقل الواعي؛ فنستدعي لِزامًا، أصل لَمّّة الحدث القائم بهَيئتِه الخام، وسَحنَته الأصلية، دون تَصفيةٍ تُذكَر، أو مُشاورةٍ تُستحضَر، مِن حِكمة وحِنكة العقل الواعي المُدبّر؛ ليبدو نَاتج وحَاصل مِنوال نَمط قراراتنا المباغِتة مُنفّرًا ومُقزّزًا، ورُبما سَخيفًا وجَائرًا، سِيرةً ومَسلكًا واعتبارًا…

هذا، ولا أكاد أنسى طبيعة عَمل مُستوى العقل اللاواعي، القاطِن في قاع الجبل الجليدي، حيث يَحتفظ بسجلّات، ووَتائق الخِبرات المَكبوتَة والمُقمعَة، والبَغيضَة؛ ويُرسلها، في مُهرولةً في حينها، تِباعًا- بأَريحية وشفافية- إلى مَخزون حَافظة العقل الباطن المُضِيف؛ ليُخرجَها لاحقًا بكَامل لَباب نُسخها الأصلية الخام، دون تَصفيةٍ أو فَلترةٍ… وأحيانًا، يَصدر الطلب العَالي المُتقدّمٍ النابعٍ مِن قَرارٍ عَاجلٍ مِن نَاصية مَجلس العقل الواعي؛ لحُضُور ومُثول أحد تلك الملفّات مِن مَخزون العقل اللاواعي، لمُداولته، وتَهذيبه… بما يُحقق توازنًا نفسيًا مُواكبٍا؛ ويُؤمّن قَبولًا وِجدانيًا رَاهنًا، مُزدوجَ الرؤية، وثُنائي البُغية، في خامَة ثوبٍ قَشِيبٍ، عند جَناب ذِهن الشخص المَعنِي، ومَا يُقابِله نِدًا لطَرفٍ مُواجه، أو أطرافٍ، ذَات صِلةٍ وثِيقةٍ بذلك الحّدَت المَطرود المَنبوذ، جُملة وتَفصِيلًا!

ولَعَلّ مُفارقة العَودة المَوعُودة الحازِمة الحاسِمة، إلى طَرفي مَجال القضيب المغناطيسي المتضادين المتباعدين المتجاذبين؛ تشتدّ قُوى حِدّة الشدّ؛ ويتوسّع استحكام طَرد الجَذب، في طُول وعَرض المجال المغناطيسي ذاته… وفي حَلبة مَيدان التسابق “الماراثوني” الحاسِم المُحتدِم، حِين سَماع صوت صفّارة انطلاق صُفوف رَشقات السهام الماراثونية المُنفلتة المَارقة، بين رِهانين: رَابح وخَاسر… فإمّا أنْ تَتدخّل- الحِكمة والحِنكة- الرائدتان في صِياغة قرار بّراعة “نَشْوَة” الفكر، وإبداع يَقظة العقل الواعي الحاضرتين الظافرتين؛ وإمّا أنْ تنقلب الموازين الضابطَة الرشيدَة حِينئذٍ- رأسًا على عَقِبٍ- باحتجات وغياب رُؤية وبَصيرة العقل الواعي لحظة، عن أُفق فَسَاحة مَيدان السباق؛ لتتسلّل، بغفلةٍ وعُنوةٍ “صَرْعَة” نجاح، وصَرْخَة انتصارٍ، وغلبة أَنفاسِ قَرارت العقل الباطن الرتيبة، بروائحَ عَطِنةٍ نَتِنةٍ؛ تُجَابَه لِزامًا، بنزعَات النفُور؛ وتُواجَه مِرارًا بفَوحَات التقزّز؛ وتُمنى تَكرارًا بلَوعَات الاشمئزاز المُستحوذِة الضاغِطة.

وفي مَشهد، نُفور وصَولة نُشوز وجُموح العقل الباطن، يُمكن إحكام، وإبرام، وإعادة بَرمجتة الذَاتية، بضبط وتغيير مَسار حَرفِيّة قَوالب مَصفُوفاته؛ وتعديل ظَاهر نَمطِية مُخرجَاته، وتَقويم مَنهجِية أَجندة بَرنامج عَمل نِظامه التقليدي الصِّرف… فهو يَستجيب مُذعنًا لبَرمجة المُخرجات، ونِداءات الأَوامر المستقبليّة القصيرة؛ ويَنجح بامتياز والتزام، في رَسم مَسار برمجتها الفعّالة المُعدّلة، بالتنسيق مَع سِجلّ الذاكرة القصيرة؛ ومِثال ذلك: تحديد أوقات النوم المُعتادة، ومِثلها أوقات الاستيقاظ المأْلوفة؛ وكذلك تَنظيم فِقرات البرنامج اليومي التقليدي؛ وتَحفيز مَهام التدخّل الذاتي، بتَرتيب مَواعيد السفر؛ وتنظيم فترات الاستجمام؛ وتَحديد أوقات التسوّق. إضافة إلى دِقة التزام توقيت ذلك النسق المُبرمج المعدّل، يَعمل العقل الباطن مُنفردًا جَاهدًا على تنظيم حَاضر الأَفكار المُسترسَلة؛ وترتيب جَاهز الرؤى الشاطحة؛ لاتصاله النشط بمِظلة العقل الكوني( مِرآة الكون) الإيحائيّة، خاصة في وقت مَا قبل النوم، ومِثله مَا بَعد الاستيقاظ الحَيويين النشطين … ولِمُرونة نظام العقل الباطن مَا لِغيره، مِن رُتبة المَزايا، ومَكانة المَحاسِن المعروفة… ورُبّما يَزداد عَطاءً وإِكرامًا؛ ويُبدي رِفدًا وتَنويلًا؛ ويَخضلّ، في انبساط جَانبه السخي المِعطاء، تدفقًا وإنعامًا، مَع فَورة نَقاء أَلمعية الفكر؛ وهَبّة صفاء سَويّة الذهن؛ وبَرمَجة صَفحات دَخيلة الفِكر، وَسط أجواء حَميمةٍ مُنعّمةٍ مُنتعِشةٍ، مِن حُسن مُخالَطة العِشرَة، وجَميل مُصاحَبة الرفقَة، لثُلّة جَمع الأَناسِي الطيبين، وخُلّة أقران الأَخيارِ الكُرماء مِن حَولنا؛ لِتطمئنّ بوُجودِهم الرحَيم القلُوب الحَميمَة؛ وتَتآخى بصُحبتِهم الودُودَة النفُوس الآمنة… (أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطمَئِنُّ القُلُوبُ)… وبالله المُستعان!



error: المحتوي محمي