يقال في الأمثال “الولد سر أبيه” وكذلك قيل “من شابه أباه فما ظلم”، وأيضًا “ابن الوز عوام”، كل تلك الأقوال تعكس واقعًا نلمسه بوضوح وتجلٍ في الشاب “ممدوح عباس هبوب”، بعد أن أصبح انعكاسًا لأبيه، تذكارًا تستعيد فيه بلدة الربيعية نفس والده الطيّب في الطبخ، وليس أي طبخ، بل ذلك الذي اختصّت به محافظة القطيف خلال شهري المحرم وصفر.
فـ”ممدوح هبوب”، اسم ارتبط بطبخ المحموص تحديدًا، وأصبح كوالده -رحمه الله- مطلوبًا في عدد من المجالس التي تقدم “البركة” في أيام الوفيات، وعلى الرغم من أنه بدأ مساعدًا صغيرًا لأبيه، إلا أنه أصبح اليوم يقود أكثر من 20 شخصًا في المضيف الواحد.
إرث عائلي
“طبخ الرجال”، إرث تتوارثه الأجيال في عائلة “هبوب”، فممدوح ورث الموهبة في الطبخ عن أبيه، وأبوه وعمه -رحمهما الله- تعلما الطبخ من أبيهما رحمه الله.
ويبدو أن الحاج عباس لم يترك إرث الطبخ في المآتم الحسينية لابنه ممدوح فقط، بل ترك ذلك الإرث لجميع بناته وأبنائه، كما اكتسبت زوجته هذه المهارة من زوجها أيضًا.
يده بيد أبيه
بدأ “هبوب” في تعلم الطبخ منذ حداثة سنه، وقد بدأه مساعدًا لأبيه، واستمر كمساعد طباخ لوالده طوال فترة حياته، إلى أن اختاره الله إلى جواره قبل 14 عامًا، وهنا بدأت مسيرته كطباخ مستقل.
يقول لـ«القطيف اليوم»: “منذ أن وعيت على هذه الدنيا وأنا أرى والدي -رحمه الله- صديقًا للقدور والمغارف، وقد كان هذا يشرفني كثيرًا، فأبي كان اسمًا معروفًا بطبخه ونفسِه في كل ما يطهوه، وقد كان كثيرون يستعينون به ليطبخ لهم في زيجاتهم، كما كانت بعض حملات مكة والمدينة تصطحبه معها كطباخ للحملة، وأهم مكان يطبخ فيه كان طبخه في المآتم”.
ويضيف: “لا أتذكر كم كان عمري تحديدًا حين بدأت أساعد أبي في الطبخ، فقد كنت صغيرًا جدًا عندما بدأت في مساعدته.
وتابع: “كنت رفيقه ومساعده الصغير، وكنت غالبًا أرافقه إذا كان لديه طبخ في مكان ما، وقد كان عملي وقتها في تحميس البصل، فكنت أبدأ في التحميس بدلًا منه، وعملي ذلك لم يكن يقتصر على الطبخ الخارجي، بل كنت أساعده كذلك إذا كان يطبخ في البيت.
من الذاكرة
يعود “هبوب” بذاكرته لأيام طفولته، مسترجعًا الذكريات القديمة لطبخ المحموص، يقول: “كنا نطبخ في بيتنا، لأنه كان يضم مزرعة كبيرة تكفي لأن نقيم فيها مراسم الطبخ، وكنا نجهز كل ما تحتاجه الطبخة داخل البيت؛ من تقطيع بصل وتجهيز الدجاج أو غسل الأرز، أو تقطيع ما تحتاجه الطبخات الأخرى من خضروات مختلفة كالطماطم والفلفل وغيرها”.
ويمضي في ذكرياته: “كان تجهيز ما قبل الطبخ موكل لأمي وأخواتي، فهن -حفظهن الله- يقمن بتلك المهمة على أكمل وجه، والطبخ كان مهمة والدي رحمه الله، فقد كان محبًا لعمله، يتحمل لأجله حرارة النيران ورائحتها حيث كان الطبخ وقتها على الحطب”.
ويوضح أنهم منذ تلك السنوات الماضية كانوا يطبخون أنواعًا مختلفة من الأرز، يتقدمها -كما هو مشهور عند الكثير من المناطق- طبق “المحموص”، خصوصًا في المآتم، يأتي بعدها طبقان يحاولان منافسة المحموص في شهرته، هما؛ البرياني والكبسة.
مشوار طباخ
الخطوات الأولى لـ”هبوب” في عالم الطبخ، والتي رصفها والده منذ سنوات هو نفسه لا يستطيع تذكرها، إلا أنه يستطيع أن يتذكر المكان الأول الذي احتضن موهبته في الطبخ واستعان به كطاهٍ يقوم بتحضير وجبات المأتم له.
يقول: “بدأت في الطبخ معتمدًا على نفسي بعد وفاة والدي رحمه الله، أي قبل 14 عامًا، ومنذ ذلك الوقت وأنا أحضّر وجبات المآتم وأشرف على إتمام تحضيرها، وكان أول مكان طبخت فيه؛ مضيف “أبا الفضل” في الربيعية، ثم موكب سيد الشهداء، ومسجد العباس، وبعدها نلت شرف الخدمة للطبخ الحسيني في عدة أماكن.
ويبين أنه على الرغم من أن مشواره في الطبخ يشبه مشوار أبيه، وبالرغم من أنه يطهو ذات الأصناف التي كان يطهوها والده، إلا أنه اختص بالطبخ للمآتم فقط، ولم يطبخ حتى اليوم ولائم المناسبات أو الزيجات.
قائد المحموص هذا العام
في شهر المحرم من هذا العام -1444 هـ- شارك ممدوح بالطبخ في مكانين مختلفين، ويبدو أن الطبخ الحسيني كان يقتطع أكثر من نصف يومه، فقد كان يبدأ للمأتم الأول عند الساعة 4:00 فجرًا، ولا ينتهي إلا عند الساعة 1:00 صباحًا، ويرتاح بعدها ساعة واحدة، ليعاود الطبخ مجددًا من الساعة 12:00 ظهرًا حتى الساعة الساعة 6:00 مساءً.
وتحدث حول عمله هذا العام، مبينًا أنه كان يطهو خلال “العشرة” كميات مختلفة، يقول: في الثلاثة الأيام الأولى كنا نطهو ثلاثة قدور، كل قدر تحمل 30 كيلو أرز، و35 دجاجة، وبعدها أصبحنا نزيد الكمية حتى وصلنا إلى 7 قدور، مشيرًا إلى أن مساعديه من الكوادر في كل “مضيف” يختلف عددهم بحسب الأيام.
وأضاف: “يختلف العمل في المضيفين، في الكوادر المساعدة، حيث إن النساء في المضيف الأول يتقاسمن معنا العمل في تجهيز المحموص ولكل منا وقته الخاص، حيث تبدأ النساء ليلًا بتقشير وتقطيع وتغسيل البصل وكذلك تنظيف الدجاج، وفي الصباح نبدأ نحن الرجال في الطبخ، أما المضيف الثاني فهو يعتمد على الرجال في كل شيء”.
المحموص “كان.. وأصبح”
ولأن الشاب “هبوب” عرف المحموص ومراحل طبخه منذ نعومة أظفاره فهو عاش فرق تحضيره في الحاضر عن الزمن الماضي، يقول: “تحضير المحموص سابقًا والآن لهما نفس الفكرة، غير أنه فيما مضى كان أكثر صعوبة، حيث إن طبخه كان على الخشب وليس على الغاز كما هو الحال الآن”.
وأوضح أن آلات تقطيع البصل الحديثة سهلت الأمر عليهم كطهاة وكوادر، وكذلك تخصيص مكان للغسيل وآخر للطبخ في الوقت الحالي، ومكان لتخزين أغراض الطبخ جعل العمل في تحضير المحموص أكثر سهولة من الوقت الماضي الذي كان يفتقر لكل ذلك.
عشرون وعشرون
بيّن “هبوب” أنه خلال مشواره في الطبخ للمآتم كانت أقل كمية طبخها عشرين كيلو من الأرز، وأكثر كمية قاربت العشرين قدرًا، في كل قدر 20 إلى 30 كيلو، بدأ في تجهيزها منذ الصباح وانتهى منها في المساء، وذلك بمساعدة عدد من الكوادر التي كانت تعمل وتنظف اللحوم والدجاج وتغسل أدوات الطبخ، وكان هو يشرف على الطبخة بدءًا من لون الحماس إلى مقدار الماء والبهارات، حتى تجهز تمامًا.
من حكايات “محموصه”
يسرد ممدوح بعضًا من علاقاته بهذه الطبخة التي لا يتقنها إلا ماهر في الطبخ، مبينًا أن أصعب مرحلة في تحضيرها هي مرحلة تحميس البصل، حيث لا بد من إضافة المرق عندما يصل لون البصل إلى مستوى معين؛ كي لا يصبح المحموص فاتحًا إذا كانت مدة التحميس أقل من اللازم، ولا مرًّا إذا زادت مدة تحميسه.
أما عن السر في لذة المحموص، فهو يقول حسب خبرته، أن ذلك يعتمد على معرفة الموازنة الصحيحة لكل المكونات من بصل وبهارات وحتى مقدار الماء.
ويروي أطرف موقف صادفه ولا يمكنه نسيانه، وذلك عندما مرّ بموقف طبخ محموص الروبيان لأول مرة، حيث كان لاذعًا وبهاراته حارة جدًا، مبينًا أنه وقع في ذلك الخطأ؛ لأنه وازن كمية البهارات المستخدمة بنفس الكمية التي كان يعتمدها في تحضير محموص الدجاج.
ملاحظة: مصدر الصور الطباخ ممدوح هبوب