لم تكن المسافات، تُرهق كاهله، يقطعها بكُلّ الشّوق، يقُوده العشق إلى حيث القلب، إلى المدينة المُنورة، هذه الأرض، التي سكنت رُوحه، يعيشها في ذاته، كنهر ينبض بالحياة.. .
يُفاجئ أسرته كثيرًا بالسّفر إلى المدينة المُنورة، ليقُوموا بتجهيز أمتعتهم، وما هي إلا بضع ساعات، ويُدير مقود سيارته الخاصة إلى سيّد الخلق محمد ﷺ.
بعض الأشياء، وإن كانت مُتعبة في ظاهرها، إلا أنّٓها في باطنها، تحمل الرّاحة في أبهى صورها، أن تكون..، الآن، تقُود سيارتك، بجانبك زوجتك رفيقة دربك، وفي المقعد الخلفي، تجلس بناتك، وأولادك، تسكب زوجتك القهوة، وتضعها في يديك، وابتسامتها، تحتويك، تُصغي إلى حديث بناتك، همساتهنَّ، وأولادك، يلعبون، يتشاجرون، تستمتع بهذه الأجواء على نغم المسافات، والجميع خفقاتهم تشي باللّهفة، الشّوق، الذي يسبق الوصول، حتى تتفتح أزهاره أثناء اللّقاء، كأنّٓما الوقت، قد تعاقد مع نبضاتهم.. .
استمرّ هذا التّعلق بمدينة النبي ﷺ، سنوات، ولم يخبو بالرغم من الكبر، حتى زرع هذا العشق في أسرته، إلى أن جاءت زيارته الأخيرة، التي حملت رسالة كبيرة إلى أسرته، وليس أسرته فقط، ولكنّٓها جاءت رسالة إلى كلّ من يسمع بها، أو يقرأ عنها.. .
تقُول فاطمة
محمد، ويراعه بين أصابعه، يُصغي إلى كلماتها، ليكتبها..، همس في رُوحها بلطف.. .
أكملي يا فاطمة، كلّي آذان صاغية، وقلب مُشتاق، ويراع سائح على شواطئ حياته.
كانت زيارته الأخيرة، التي سبقت إصابته بالمرض، الذي على إثره فارق والدي الحياة.. . تبكي فاطمة، وهي تسرد القصة
ناولها محمد منديلًا، وحدّق في عينيها، كأنّٓه يستمطرها، كي تُكمل، بينما قلبه ينقبض، لتأخذه الذّكريات إلى حيث مرضه، وهو جالس بقُربه، يُبصره، وآهاته، تخترق وجوده، وتُوجع كلّ الإحساس في جسده، إنَّه يتلبسه، الآن.. .
محمد، يُمارس كتابة القصص، تحدّث مع فاطمة مرارًا، كي تحكي له عن حياة والدها “أبو أحمد”، زوج عمته، ليقُوم بالكتابة عنه في قالب قصة، لإيمانه بأنّٓ المواقف في حياة الإنسان من المُفترض الكتابة عنها، لتكون قدوة إلى الآخرين، ولا تُصبح في طي النّسيان.
محمد له رُؤيته الخاصة فيما يتعلق بكتابة القصص، يتخذها النَٓموذج، بالإضافة إلى الولوج في عمق التّجربة الحياتية، والثّقافية، الاستغراق في الحالة الأدبية، التي ترقى بالإنسان في ألوان وجوده، ليُقدم للقارئ ما يستحق، ليغدو كالقمر، يُضيء حالكات الظّلمة في حياة الإنسان.
أكملت فاطمة في انحناءة أتعبها البوح، وألهب مشاعره، شوقها إليه.. .
في زيارته الأخيرة إلى المدينة المُنورة، لم يذهب بسيارته الخاصة، ولكن ذهب بالحافلة، ليجلس هناك يومين، إنّٓ السّفر بالحافلة مُتعب بالنّسبة إليه، لكنّٓه لا يستطيع أن يغيب عنها فترة طويلة، هكذا يتعلق العاشقون.. .
وبعد انتهاء اليومين، كنّٓا ننتظر عودته بالسّلامة، فالأسرة بدونه، تفقد حنانها، تفقد رُوحها الطّيبة، تفقد الابتسامة، تفقد الحياة في مُجملها طراوتها، حين يحضر، ويكون بيننا، فإنّٓ الحياة كلّها تحضر، كاللّؤلؤ والمرجان، بحدائقها الغناء، بقطرات مطر غيماتها، بضحكة الأطفال، وهم يلعبون، بألوان الفاكهة الزّاهية، بدفء قلوب الطّيبين.. .
الآن..، كأنّي أعيش لحظة حُضوره، كنّٓا في بهو المنزل، فُتح الباب، صرخ أخي حسن فرحًا: وصل أبي..، وأسرع يُعانقه، قُمنا، تعلونا الفرحة، تسبقنا اللّهفة، لعناقه، وتقبيله.. .
احتوانا بحنانه، أرى السّعادة في وجه أمي، في ملامح إخوتي، وأخواتي، شيء قد لا يمكن توصيفه، مثل هذه الأشياء، لا تمتلك الأبجدية القُدرة على توصيفها، ولكنَّها تمتلك الإشارة إليها من خلال الأثر، هذه اللّحظات، تستشعرها بقلبك، ورُوحك، وتلمسها بنبضاتك.. .
يُحرك محمد يراعه، وهو يتأمل عينيّ فاطمة، الباكية بصمت، الدّموع، لا يُبصرها، إنَّها أكبر من أن تُبصر، يجدها في حُمرة وجنتيها، تحط آهاتها في خفقاتها، أنفاسها المُتقطعة.. .
تأخذ فاطمة نفسًا عميقًا، وتُكمل حديثها.. .
كنَّا آخر الوجوه، التي يُبصرها، ويُقبلها قبل سفره، وأول الوجوه، التي يستقبلها، ويُعانق أرواحها عند عودته من السّفر.. .
أخرج والدي الهدايا، وزعها علينا، اجتمع الأطفال حوله، كلّ يأخذ هديته، ويقبل جبينه، كان والدي يحتضننا، يحتضن الأطفال، يحتضن الكبار، في قلبه حنان لا يُخفيه، يُظهره في تعامله معنا، من خلال كلماته، ابتسامته، لمساته، عناقه، في عينيه الشّٓغوفة بالحُّب، النّٓابضة بالشّوق والحنين.. .
فجأة صمت في قلق، احمرّت وجنتاه، سألته أمي عن سبب تغيره، أجابها بحُزن، “مشبك الشّعر” في يديه، يُقلبه: يبدو أنّي لم أعطِ صاحب المحل التّجاري ثمنها.
بقي والدي قلقًا، يُفكر كيف يُوصل ثمن “مشبك الشّعر” لصاحب المحل.
بعد أيام عدّة من وصوله، عقد العزم على السّفر إلى المدينة المُنورة مرة أخرى، ليقوم بسداد قيمة “مشبك الشّعر”، حيث إنه بقى مُتوترًا جدًا، لإيصال قيمة المشبك، وإن كان زهيدًا، فقد كان شغله الشّاغل.
انطلقت الحافلة في نهار، تنفسه أبي بكلّ راحة يُدغدغها الأمل، يُبحر في ذاته، كأنَّ اللّحظ تجمعه بصاحب المحل، ليُعطيه حقه، قد ينظر الإنسان إلى أنَّ الأمر قد لا يستحق كلّ هذا التّوجس والقلق، من حيث إن الأمر ليس يقينًا، استشعر الرّاحة، كأنَّه للتو قد أعطى صاحب المحل حقه، بعض الخيالات، يكون تصورها، كطعم الفُستق، ورائحتها، كارتشاف رائحة البنفسج والياسمين، أغمض عينيه، الآن.. .
وقفت الحافلة عند الفندق، لم ينتظر أن يُريح جسده من عناء الطّريق، ليتوجه مُباشرة إلى المحل، وبعد التّحية على صاحبه، أخبره بما جرى له، تعجب صاحب المحل منه، وأخبره لم كلّفت نفسك؟!، لتأتي من أجل مبلغ زهيد “سامحتك وأبرأت ذمتك”، شكره أبي بكلّ الحُب على لطفه، وقدّم له ثمن “مشبك الشّعر”، قبل رأس أبي، وقال: إنّي أقبل هذه الرّوح، التي تسكن بين جنبيك، فأنت علمتني، أنَّ الأمانة شرف للإنسان، التّحلي بها، يجمع كلّ الأخلاق، والتّربية الصّالحة..، جلس أبي يومين، ثمّ عاد لنا، احتضناه، وبين ذراعيه احتضنَّا كلّ هذه القيم، التي تجسدت فيه، لتكون الأمانة نبراس حياته، يعيشها بإخلاص، يُربينا عليها، ليس بالكلمات فقط، ولكن من خلال الواقع، في كلّ شيء، كان أبي قدوة حسنة.. . تبكي فاطمة بحُرقة
تساقطت الدّموع على القرطاس من عينيّ محمد، واضعًا أصابعه على رمشيه، يُدير في لمساته الشّوق.. .
محمد..، نعم، قد فارقنا أبي إلى الدّار الآخرة، ولكنَّه لم يُفارقنا إلا جسدًا، ستظل رُوحه تسكن أرواحنا، ستظل أنفاسه عبقًا، ننثره على ملامحنا طيبًا، ستظل هذه المبادئ والقيم المنهج، الذي يُنير لنا الحياة، أبي رحل، ولكنَّه هنا، وهنا..، فاطمة تُشير إلى قلبها وعينيها، والبُكاء لا ينضب معينه، إنَّه القارب، الذي يُشير إليه، ليُعانقه مُجددًا، كأنَّه للتو قد عاد من سفره، إلا أنَّه لم يُعانقنا بين ذراعيه، إنَّه العناق الذاتيّ، نستشعره في كلّ دقائق يومنا، في كلّ حياتنا..
إنَّها الأمانة..، أيُّها السّادة..، يقُول محمد لفاطمة، سيكون هذا عنوان القصة..، هل تُوافقين، أجابته بإيماءة..، نعم..
سأعاهدك يا أبي، أن أربي أبنائي على ذات القيم، التي ربيتنا عليها، ولن أحيد عن النَّهج، الذي سلكته أنت.. . تقُول فاطمة، وهي تبتسم، تفتخر بأبيها..