ورد عنِ الإمامِ الصادق (عليه السلام): “مَنْ زارَ قبرَ الحُسينِ بن علي (عليهما السلام) عارفًا بحقّه..” (كامل الزيارات ص 324).
مما لا شك فيه أن الروايات الكثيرة التي تتحدث عن الثواب العظيم لزيارة الإمام الحسين (ع) عن قرب تدفع العقول الواعية للبحث عن حقيقة ذلك الفعل -الزيارة-، والذي يمكن أن يترتب عليه فيض إلهي وجوائز سنية بهذا المستوى، إذ من الواضح أن مفهوم الزيارة لا يمكن أن يكون ترداد الألفاظ ولقلقة اللسان بكلمات يغيب عنها الفكر والسلوك بل يمكن أن يغايرها تمامًا، فهل الزيارة تنفع وتنتج هذا الأثر ولو كان الزائر مقصرًا في الحقوق وبعيدًا عن محراب الطاعة والعبادة ومدمنًا على مقارفة السيئات وعاكفًا على معاقرتها؟!
إن الدعوة إلى الزيارة لا تعني الجهة المادية المتمثلة بالوقوف أمام القبر الشريف وحدها مع يقيننا بوجود البركة، وإنما بالتأكيد ترمز إلى الوقوف متأملين في معاني الزيارة المتضمنة قيم وأهداف ومنهج الإمام الحسين (ع)، وذلك لاتخاذه نبراس هدى في دروب الحياة وكيفية تهذيب النفس وتطهيرها من دنس الشهوات، وهذا يعني أن الزيارة بما تتضمنه من معانٍ ومضامين عالية تمثل منهج هداية، تأخذ بحجزة العصاة لاستبصار أحوالهم وأوجه تقصيرهم ليعالجوها.
ورد الثواب الكبير لزائر الإمام الحسين (ع) بما يليق بأكرم الأكرمين في عطائه اللامتناه وغير المتناسب مع العطاء البشري، فلا ينبغي لنا أن تضيق عيوننا فنقارن ما يقدمه الكريم من البشر لمن أحسن إليه أو قدم خدمة له فلا تتجاوز المجازاة شيئًا من المال أو هدية تطيب بها نفس المعطى، فإن القرآن الكريم يحدثنا عن العطاء الإلهي {والله يضاعف لمن يشاء}، كما أنه سبحانه أعطى بعض المساحات الزمانية كـ ليلة القدر والمكانية كالحرم المكي الشريف من الامتياز والثواب الجزيل لمن أحسن العبادة المخلصة فيهما، فكذلك هناك من الأعمال الصالحة والأذكار ما ورد في ثوابها شيء من نعيم الجنة، كما في ذكر التسبيحات الأربع (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر).
وزيارة المولى الحسين (ع) لها غاياتها إذ هي باب من أبواب الثواب العظيم وكذلك ما تحدثه من الأثر النفسي والروحي على الزائر في تهذيب نفسه بالتحلي بقيم الحسين (ع)، ومن يفهم الزيارة بنحو الجمود ومجرد تكرار ألفاظ دون التفاعل ولا الانسجام الفكري والسلوكي معها فهو واهم، فلقلقة اللسان دون التآزر الفكري مع معانيها ومضامينها لا تؤدي الغرض المستهدف منها.
ومن جهة أخرى يتعلق الأمر بالمزور -وهو الإمام الحسين (ع)- والذي بذل كل غال ونفيس من أجل الحق ورضا المعبود ورفع كلمة الدين ومضامينه وحفظها من التحريف والتزوير، فقدم نفسه الطاهرة ومهج أصحابه الكرام قرابين لله عز وجل وتضحية وبذلًا في سبيل حفظ نهج جده المصطفى (ص)، والزيارة المتقبلة والواصلة في القبول والجزاء مرحلة كبرى لها شرائط ومن أهمها المعرفة الحقة بالإمام الحسين (ع)، وبلا شك فإن المعرفة لها مراتب متعددة وأدناها أن يكون المرء عارفًا بمجمل السيرة العطرة لهذا الإمام العظيم وما احتوته من مواقف نبيلة حملت مكارم الأخلاق الرفيعة والتعامل الراقي؛ ليكون مؤهلًا لمستوى الاقتداء بالمنهج الحسيني الداعي إلى رفعة الإنسان وتكامله.
وأما تصور أن معرفة الإمام الحسين الحقة هي مجرد حمل مشاعر الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية، لما سجلته من مواقف متألقة كانت تجسيدًا لمعالم الأخلاق الرفيعة فهو محض الوهم، إذ أن أي فرد من البشرية – على اختلاف الملل – لا يمكنه إلا أن يسجل كلمات الإعظام لإمام وقف بكل شجاعة واقتدار مدافعًا ومنافحًا عن القيم والمبادئ الصانعة لشخصية الإنسان، وعند مطالعتنا لكلمات وقصائد الكثير من المفكرين والباحثين التي تتحدث عن شخصية الإمام الحسين وواقعة الطف، نجد فيها إشادة بمن سما على الحاجات المادية وصنع معنى للحياة القائمة على تعزيز مفهوم الذات والقيم والدعوة إلى تحكيم العدالة الاجتماعية، وبذلك تغدو المعرفة الضحلة بمعنى إدراك نجابة الحسين وتجسيده للمكارم الأخلاقية ليست هي بالمعرفة المناسبة لمقام أبي الأحرار (ع).
المعرفة السامية والمشار إليها هي التأمل والتدبر في سيرة ومواقف هذا الإمام العظيم واستخلاص النتائج واستلهام العبر منها، بحيث تكون الخطى والكلمات مستوحاة من نمير المعارف الحسينية والسلوكيات الصادرة منا، فالإمام الحسين كان منهجًا متحركًا لإيقاظ النفوس وتوعية العقول بالقيم التي حملها لتكون عنوان وهوية الشخصية الإنسانية، إذ كان حديثه الصدق وكلماته ناطقة بالحكمة وتتويج الرشد العقلي ومواقفه تنبئ عن الشجاعة والتضحية، ولذا من أراد بناء معالم شخصيته على أساس الاقتدار والثبات والقوة في مواجهة التحديات والصعاب فليتمثل القيم الحسينية.