قام أحد الباحثين قبل سبعة عقود بعمل تجربةٍ اجتماعية في علم النفس للشائعات، حيث شارك عرضًا إيمائيًا مع أحد المشاركين في التجربة وَأعطاه وقتًا كافيًا لاستيعاب العرض، ثم طلب منه بعدها وصف العرض لمشاركٍ ثانٍ من المجموعة، وَطلب من الثاني عمل ذلك لثالث، وَكرر ذلك مع رابعٍ وَخامسٍ وَسادسٍ بذات الطريقة. كرر الباحث هذه التجربة وَغيرها مع عدة مجموعاتٍ باستخدام محتوى وَأوضاعٍ مختلفةٍ أيضًا.
استنتج الباحث من هذه التجارب أن الشائعة تصبح أصغر في المحتوى وَأسهل في المشاركة مع الآخرين أثناء انتقالها من شخصٍ لآخر، وَبَيَّنَت نتائج بحوثه أيضًا أن محتوى الشائعة يفقد حوالي 70% من التفاصيل عند وصولها إلى الشخص الرابع أو الخامس من الناقلين لها.
وَمع أن التجربة كانت خاصةً بالشائعات وَالأبعاد النفسية لها، إلا أننا وَفي عصرنا الحالي يمكننا رؤية تأثيرٍ مماثلٍ على ما نتناقله بين أروقة الشبكات الاجتماعية باختلاف المحتوى وَصيغته، فالمشاركةُ أصبحت في متناول الإصبع دون أي جهد يُذكَر، وَصُنعُ المحتوى باتَ نِتَاجَ “النسخ واللصق” للكلمات والجُمَل.
وَفي “النسخ واللصق” وَإعادة الإرسال تتقاطع الشبكات الاجتماعية مع تجربة الباحث في علم النفس للشائعات، وَتُفصِحُ عن الكثير من الأمور التي نعاني منها في التواصل المقروء وَالمكتوب، بتفرعاتهما المختلفة مثل الأخطاء النحوية والإملائية التي قد تكون مقصودةً أحيانًا.
عند الوقوف على مشكلات التواصل المقروء نجد أن الأخطاء النحوية في القراءة قد يسببها عدم تشكيل النصوص، وَالقراءة الصحيحة دون حركاتٍ تشكيلية على الكلمات قد لا تتأتى للجميع، وَقد يسببها أيضًا –من جهة أخرى- عدم القُدرَةِ على القراءةِ الصحيحة حتى مع وجود الحركات على الكلمات، وَفي هذه الحالة –والأولى أيضًا- يلزمُ تعلم القراءةِ الصحيحةِ لضمانِ عدم الإخلال بالمعنى المقصود، وَالأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها الآية الكريمة (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)، فجاء لفظ الجلالة منصوبًا وعلامة نصبه الفتحة “اللهَ”، وَجاءت كلمة العلماء مرفوعةً وعلامة رفعها الضمة “العلماءُ”، وَتركيب المعنى الفعلي للآيةِ يخبر بأن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى، أما قراءة الآية برفع لفظ الجلالة ونصب كلمة العلماء فذلك خطأٌ جسيم في المعنى.
وَفي مجال الأخطاء الإملائية فذلك حديثٌ على عدة أوجه، بعضها نابعٌ من عدم المعرفةِ الصحيحة بكتابة الكلمة الصحيحة، مثال ذلك الإبدال بين الضاد وَالظاء في الكلمات وَما يسببه من تغيير في المعنى ككلمتي حَضَرَ بمعنى أتى وَحَظَرَ بمعنى مَنَعَ، وَاستخدام التاء المربوطة بدلًا من الهاء في نهاية الكلمة مثل كتابة “اللة” مقابل “الله”، وَكذلك كتابة الهمزة والفروق بين وجودها على السطر أو النبرة أو الألف وَبين كونها همزة تُكتَب أو لا تُكتَب، وَهناك أيضًا عبارات متداولة تكثر فيها أشكال الخطأ مثل “إن شاء الله” التي تُكتَبُ بأشكالٍ مختلفة مثل إنشاء الله أو انشالله أو غيرها.
وَإذا كان الوجه السابق نابعًا من عدم المعرفة، فيمكن التغلب على ذلك بالتعلم أيضًا، أما ما يدمي القلب فهو تعمد الخطأ بحجة السرعة في التواصل أو أن المتلقي سيفهم المعنى المقصود دون جهد. مثال ذلك إبدال حرف الجر “في” بحرف العطف “فَـ” وقول “فالبيت” بدلاً من “في البيت” إجابةً عن مكان وجودك، وَتكون الطامة أكبر حين يصدر الخطأ ممن يجب أن يكون مثلًا أعلى في أمور الكتابة والتواصل.
الهدف من ذكر الأمثلة السابقة هو الإشارة إلى أننا نحيدُ شيئًا فشيئًا عن لغتنا العربية، سواءً قرأنا وَكتبنا بالفصحى أو حتى تواصلنا بلهجتنا المحلية، وَقد لا يرى كثيرٌ منا ضيرًا في ذلك طالما كان التواصل مفهومًا، لكن ما نفعله الآن هو تناقل المعرفةِ –كما نقلت الشائعة في التجربة– من جيلٍ لآخر، مُغفِلين كثيرًا من قواعد لغتنا الجميلة قبل تفاصيلها البديعة، وَإن لم نتدارك ذلك في شبكات التواصل الاجتماعي الآن، فلن تؤتي دروس اللغة العربية في المدارس ثمارها، وستأتي أجيالٌ تعتمد “اختزال” اللغةِ “وَالإيماءِ” بالكلمات عِوَضًا عن القراءةِ وَالكتابةِ بالقواعد الصحيحة وبالحروف الكاملة.