نضع كرسيًا أو نجلس عند حافة الشاطئ، ونتأمل البحر، ونتنسَّم نسمات الهواء المنعشة، تستريح لها النفس من عناء العمل والدراسة ومشاق الحياة؛ نتنفس نفسًا عميقًا، فنشعر بالبهجة والارتياح، ونشاهد الطيور البحرية وحركة الأمواج وبعض الحيوانات الفطرية، والرقعة الخضراء التي تفوح منها رائحة طيبة تمتزج برائحة البحر المميزة، تملأ الواجهة البحرية وتجذبنا إليها، ونشرع في إظهار مشاعرنا الدافعة لجمالها، حين تقع أعيننا على الطبيعة الخلابة، الطبيعة التي تزخر بالمخلوقات والأسرار، وهنا قد يحق لنا أن نتساءل: أين نحن من هذا كله؟!
يدّخرُ البحر في أحشائه وعلى وجهه كل مقومات الإغراء تبهر العقول وتجعل الإنسان يتأمل قدرة الخالق عز وجل التي ما فتئت تجتذب الإنسان وتشده إليه، فالاستمتاع بالعنصر الجمالي والتنوع الأحيائي كملجأ لتخفيف الضغوطات الحياتية، وطي الهموم العالقة، وحاجة الإنسان المستمرة إلى الرفاهية والرخاء والراحة، راحة العقل والجسم والحواس والروح، والبعد عن متطلبات الحياة العصرية وتعقيداتها المختلفة.
قبلا، كنا ننظر إلى البحر على أنه مورد من موارد الغذاء ومصدر للثروات الطبيعية الأخرى التي سخّرها الله تعالى للإنسان، ولم نكن نتطلع إلى يوم نرى فيه مخزون ثروات البحر يتهددها التدمير أو التلوث أو الإفساد، وتتحول إلى مصدر للكوارث والأسقام.
الأسماك وبقية التنوع الحيوي تميل بشكل عام إلى العيش والتكاثر داخل بيئة نظيفة وخالية من المواد المضرة.
التمتع بالمشاهد الطبيعية على شواطئنا الجميلة تحتاج إلى ضوابط ملزمة تكفل عدم تعريض البيئة البحرية والتنوع الحيوي من طيور بحرية وبرمائيات وأسماك وغيرها لضغوط تساهم في تدهورها، فهناك الكثير من التأثيرات السلبية قد تغير من خارطة التنوع البيئي في بلدنا المعطاء. الأنشطة البشرية التي يمارسها مرتادو الشواطئ والواجهات البحرية تحتاج إلى المراقبة المستمرة، ففضلات الطعام والمواد البلاستيكية والمعدنية والورقية وما شابه، والتي تمثل الفضلات الصلبة التي خلفها رواد الشواطئ وراءهم، كميات كبيرة من النفايات البحرية تجرفها الرياح من اليابسة، كأكياس البلاستيك التي رماها مرتادو الشواطئ فنثرتها الريح هنا وهناك، وعلقت بصخور ورمال البحر، يكفي أن تقف على شاطئ البحر لتتأمل وتراقب حجم الكارثة، لترى وجه البحر القريب من الشاطئ كومات من النفايات التي شوهت جمال الواجهة البحرية، وتنبعث منها روائح عفنة بدلًا من رائحة البحر المميزة، مشهد أكوام الفضلات الملقاة على الأرض لا يزال حيًا في الأذهان، مناظر تكتئب لها النفس، ناهيك عن الأضرار التي تتعرض لها الأسماك والحياة الفطرية من جراء التلوث بالمواد البلاستيكية والمعادن الثقيلة، وتتحول إلى أخطار محدقة عند تراكمها، يمكن أن تقضي على الثروة السمكية التي هي مصدر رزق الناس! فالشواطئ القذرة تسبب بلا شك أحد أعمق الآثار البيئية المرتبطة بالنشاطات البشرية، ونتساءل: أهي عقلية الاستهتار في مجتمعنا الاستهلاكي؟ التحدث عن السلوكيات السيئة أو ما يعرف بـ”الانحراف السلوكي” الملاحظة في مجتمعنا أمر ليس بالسهل، وقد لا يتقبله الكثير من الناس. طبعًا نحن ضد إطلاق مثل هذا القول في جزئه التوعوي كونه مصدر إلهام مستمر، إننا ورغم اعتزازنا بما يتحلى به أفراد مجتمعنا بالثوابت الدينية والوطنية، لكن أن تظهر بعض السلوكيات التي تشوه المنظر العام ولا نقف عندها لنبحث في تفاصيلها، فهذا ضد قناعاتنا، لا بدَّ من التوعية، إنها مسؤولية. مسؤولية يطالب بها كل شخص ينتمي إلى هذا البلد المعطاء.
يجب ألا توضع القضية في نطاق محدود؛ معنى ذلك ما نبديه أعزاءنا القراء هو حرصنا على إيصال رسالة مفادها المعالجة الصادقة الصائبة التي تهدف إلى تغيير السلوكيات الخاطئة وإبعاد كل ما يسيء إلى مجتمعنا والنهوض به بالصورة المرجوة منه. من الجدير بالذكر أن مجتمعنا بحاجة إلى مزيد من التوعية البيئية، مما يلاحظ أن كثيرًا من رواد الواجهة البحرية من العوائل والأفراد يتركون مخلفات طعامهم والعلب الفارغة وغيرها دون أن يكلفوا أنفسهم عناء إزالتها، وتترك تلك المهمة البسيطة لعامل النظافة، وأغرب ما أستغرب له في الأمر وأنا أراقب المنظر الغريب؛ هو إصرار بعض رواد الواجهة البحرية من الكبار على ذلك السلوك الخاطئ دون اكتراث، رغم وجود العديد من الحاويات المخصصة لجمع النفايات، كما أن أمانة محافظة المنطقة أولت المدينة مزيدًا من العناية والاهتمام والمحافظة على جمال طبيعتها، وقامت البلدية بتوفير خدمات ضرورية لراحة مرتادي الواجهة البحرية، ووضعت لافتات إرشادية وتوعوية تدعو إلى الالتزام بالآداب العامة والمحافظة على نظافة المكان، ولتلافي هذا الأمر، تملك الأمانة فرض رقابتها على المستهترين بالمرافق العامة وإلزامهم بالضوابط الصحية العامة، وتطبيق مبدأ العقاب مما يدفع هؤلاء العابثين إلى التقيد بالقوانين واحترام التعليمات، فأنا وأنت وألوف الملايين من أمثالنا عشنا عصاة لا نحترم القوانين إلا إذا ظلت القوانين قائمة على رؤوسنا ولا نتحرى عمل الواجب إلا مدفوعين بعامل الضرورة جلبًا للمصلحة أو خوفًا من العقاب. ومن أجل تحقيق بيئة نظيفة لرواد الشواطئ والواجهات البحرية الملتزمين؛ يجب التوقف عن السلوكيات والتصرفات السيئة، يا هل ترى من أين أتت لنا تلك المظاهر العبثية واللامبالاة؟! في اعتقادي أن مرد ذلك يعود إلى فقد بعض شرائح المجتمع مفهوم الثقافة البيئية، فإن من يشاهد النفايات في واجهة البحر من زوار المنطقة ربما حكم على سلوكنا أو قصورنا أو نقص وعينا ومعرفتنا، مأزق حرج يسيء إلى سمعتنا. فهل ندرك فداحة المسؤولية الدينية والأخلاقية التي تنتظر بيئتنا التي نعيش فيها؟! مع شديد الأسف إلى الآن لم نرقَ إلى مستوى المسؤولية والسلوك الحضاري في تعاملنا مع المنشآت والمرافق العامة والمحافظة على البيئة ومواردها الطبيعية، فمتى نشاهد الأطفال قبل الكبار وهم يلقون بتلك النفايات داخل الحاويات؟! صورة تفاعلية ودروس توعوية، فهذه المثل والقيم والقواعد والتعليمات لا بد أن تأخذ طريقها بحيث تتحول إلى أخلاق وسلوك، مثل هؤلاء الأطفال يتميزون بالتربية الواعية المبنية على الأسس الدينية والأخلاقية، الاهتمام بالبيئة والمحافظة على عناصرها المختلفة، ناتج عن التربية السليمة والمراقبة الدائمة التي تفتقر إليها – للأسف الشديد – بعض الأسر، إن أغلب العوائل في مجتمعنا لا يدركون قيمة وجودهم ويتعاملون مع الحياة تعامل اللامبالاة التي تعود عليهم وعلى أفراد مجتمعهم بالضرر الكبير والخطير بل والمدمر في بعض الأحيان، فغياب التربية الصالحة يؤدي إلى فساد سلوكي وأخلاقي، وإن طريقة التعامل التي تنشأ في ظلها الأسرة ليست وفق ما يريد الإسلام تمامًا بل هي مليئة بالأخطاء والانحرافات، ملأنا بيوتنا خدمًا، والنتيجة أطفال أقل اكتراثًا بنظافة المكان الذي يتواجدون فيه، فالجميع تحت رحمة الخادمة، فسلوك الوالدين إذا كان مستقيمًا انطبع على سلوك الطفل وشخصيته، ومن المفيد جدًا أن نذكّره دائمًا بأهمية نظافة المكان الذي يتواجد فيه، إننا في أمسّ الحاجة إلى تعويد أطفالنا على الثقافة البيئية التي تكوّن شخصيتهم من منظور ديني وأخلاقي، نربيهم التربية الصحيحة التي تؤهلهم ليكونوا عناصر حية وفعالة في المجتمع، والحضن الأمثل لتنشئتهم هي الأسرة وظيفتها الطبيعية نحو الأبناء في مرحلة طفولتهم.
تعمدت الوقوف وأطيل النظر على هذه الظاهرة التي ترتبط بالقضايا الأسرية والاجتماعية، ومن خلال المشاهدات لاحظت نقصًا، وفراغًا كبيرًا في وعي بعض الأسر ومعرفتهم بتعاليم الدين ورؤيته، ولأننا نعيش في منطقة جميلة، بيئتها المائية تضم تنوعًا أحيائيًا رغم صغر حجمها وضيق مياهها وضحالتها وقلة عمقها النسبي عليها، فمياه الخليج العربي تمتاز بالدفء، وعدم الاضطراب من جراء التيارات البحرية، لأن الخليج شبه بحيرة مغلقة، ومن أخصب المياه البحرية، إذ تتوافر فيها الأغذية اللازمة لازدهار الأسماك والقشريات الأكثر اكتظاظا، نعم، بيئتنا البحرية الزاخرة بمئات الأنواع من الأسماك ذات الجودة العالية، فصائل كثيرة من الأسماك والروبيان والأحياء البحرية التي تعيش المراحل الأولى من حياتها في الأجزاء الضحلة المتاخمة للساحل وتضع بيضها قرب أشجار المانجروف والأعشاب والطحالب الخضراء، التي تشكل حضانة للأسماك والروبيان وينمي البيئة الحيوية في الخليج الملائمة لجميع الأحياء البحرية، يهددها اليوم ظاهرة التلوث البيئي! مسؤوليتنا أن نثقف الناس بشكل مستمر بأهمية البيئة ونشعرهم بأنهم معنيون بالكوارث البيئية وعليهم مسؤولية أخلاقية، أو دور يقومون به لحماية ما تبقى من حياة فطرية، أو هواء وماء نظيفين، وأن نجعلهم كذلك شركاء في تدارك تأثير الكوارث البيئية المباشر وغير المباشر على مجمل حياتهم الصحية والاقتصادية والمعنوية، ويبقى للجيل الجديد أن يقرر مصير بيئته.
وتبدو النظرة الإيجابية المتفائلة في طي الصفحات العبثية المثيرة للفزع في حياة اختصاصيي البيئة.
وأخيرًا، ما أحوجنا اليوم قبل الغد إلى غرس المفاهيم البيئية وسط مجتمعنا وفي عالم تسوده حماقات لم يعد مستطاع تجاهلها أو إغماض العين عنها.