لكنَّها لم ترحل.. «6»

جاء اللّقاء الأول، كهُدوء المساء..

إبراهيم رحب بها، بعد أن بادرته بأحرفها الخجلى، وتُلقي عليه السّلام، تجلس بقُربه، تُحاول أن تُخفي ارتباكها، حُمرة وجنتيها، بالنُظر إلى الّزوايا، التي لا تُسقطها على عينيه..

الوقت كفيل بأن يُزيل ما يحتويها من الخجل، يُغري تطلعاتها، وما تهفو إليه..

أصبحت ياسمين، تألف إبراهيم، وهو كذلك، يألفها، تحدثا طويلًا، الضّحكات..، تُشاغب محياهما، الأصابع..، اتخذت طريقها طولًا، وعرضًا، تستطعم المشاعر على مائدة العاطفة الجامحة، إلا من العناق الدّفء..

بعد خُروجه، قام بالاتصال بياسمين عبر هاتفه النّقال، وهمس: أحبكِ ياسمين..
أجابته: أحبك إبراهيم..
وانقضى اللّيل إلى بزوغ الفجر، وانسدال الشّفق الأحمر..

طلبت منه ياسمين أن تُنهي المُحادثة، لكي تخلد إلى النّوم، حتى تستيقظ قبل صلاة الظّهر، لتتمكن من تجهيز حقيبتها، وتستعد للذّهاب إلى المحطة، والتّوجه إلى الجامعة..

لم يُمانع، ولكنّٓه بيّن لها عدم رغبته في إنهاء المُحادثة بشكل غير مُباشر من خلال بُرودة حديثه؛ لأنّه لم يشبع منها، موافقًا على مضض، وأغلق الهاتف النّقال على الفور دون أن يقُول لها أحبك، كعادته.. هذه الكلمة ذات الأربعة أحرف، كان يُسمعها إياها بين الفينة والأخرى..

لماذا لم يقُلها..، الآن، وأنهى المُحادثة، وللتو كنَّا مع بعض، ولم تمض ساعات اليوم الواحد على اللّقاء الأول؟! ياسمين تُحدّث نفسها باضطراب مُخيف..
في المساء، توجهت إلى المحطة، التقت حنان، التي تنتظرها بشوق، لتعرف انطباعها عن خطيبها..

جلست في المقعد بجانبها، بعد مُصافحتها..، التزمت ياسمين الصّمت بعد بُرهة من الحديث..

أخرجت ياسمين دفترها الصّغير، وبدأت تكتب على أنغام المُوسيقى الكلاسيكية، وحنان لم تُرد قطع الإلهام لديها، وتختلس النّظر إلى يراعها، وهو يكتب، كروح الطفلة في داخلها..

كتبت ياسمين: أن تكون وحيدًا، ليس معناه أنك لا شيء، قد تكون الشيء، وحكاياته، اقرأ الصّمت في ملامح وجهي، لأكتب البوح في ملامح وجهك، كلانا في ذات العينين رمشًا، وأنا وحدي في نبضك وجعًا..

يا هذا..، هل وجدت أصابعك في الرّمال الرّطبة ملاذًا، لترسم وجهًا، يُشبهك، وتلهث في احمرار خيوط الشّمس، احتواء قطرات الأزرق من الغيمات؟
سأرسمها أحلامي على وجهي في الرّمال، أناغيها، ألبسها أضلعي، وأمنحها اليقظة الحُبلى بالقلق، لأبكي على مُكعباتها الصُغيرة، استجداء البوح..، لن يمُوت الأمل في نوافذ ليلنا، سيُبلله الصباح برغوة النّدى، ليسقط على كهف المُعاناة ربيعًا، يُخيطه الرّبيع حكاية، كامتداد الشّغف في خديك، أزيل بأصابعي تجاعيد الحياة، وأرجعك طفلًا، يلهو بدميته، لتُغمض عينيك في اشتهاء الصّباح، ومُوسيقى الرّوح، تُداعب النّعاس..، فأنا سائحة في شدو الأزقة، أقطع المسافات..، في عينيّ الخُطوات، تجيء هلعًا، ويديّ ترتعشان من فوضى البصر، أرشح جبينيّ بالماء، أتناغم على رائحة الجُدران القديمة، كنقاء رُوحي المُتعطشة، كسكون شفتيّ، تُرهقني الكلمات..

‏نحن نعيش الوهم في بعض حياتنا، نمشي بعيدًا هنا وهناك، وبعد سنوات، نسأل أنفسنا: ماذا استفدنا، ما نتاجنا؟، هل قدمنا إلى حياتنا ما يجعلها ترفل بالازدهار؟ سنعرف بعد سنوات من صراعات الحياة، ومقارعة هذا وذاك، بأن الخاسر الأكبر، هو نحن..

يا هذا..، يقُول شمس التّبريزي: “إذا كنت تبحث عن الكمال، فأنت لا تبحث عن الحُب؛ لأنَّ مُعجزة الحب، تكمن في عشق العيوب”.
‏يا هذا..، ويقُول نيتشه: “يتمسك الإنسان بمعان فارغة في حياته، خوفًا من أن يعيش حياة فارغة من أيّ معنى”.

وأجدني بين هذا القول وذاك، أعاني صراعات الماضي، والمُستقبل..
فجأة..، قذفت الدّفتر واليراع في حقيبتها، ووضعت كلتا يديها على وجهها، تبكي بحُرقة بلا صوت، فقط الدّموع تُبلل خديها..

احتضنتها حنان، تُطبطب على كتفها، تمسح دُموعها بأصابعها.. .

ما بكٍ ياسمين؟!
لا شيء..، إنّي خائفة، ولا أعلم السبب.. . تُجيبها ياسمين
هوني على نفسكٍ، يبدو أنَّك لم تنامي جيدًا، لتخلدي إلى النّوم إلى حين وصولنا.. تقُول حنان بلطف
حسنًا، لا تقلقي..، سأكون بخير.. . تُداعبها ياسمين
أغمضت عينيها..

وفي هذه اللّحظة، أتأمل عينيكٍ، لأرمقها بعينيَّ عاشقة، أتعبها العشق ترحالًا إلى ضفتيكِ، لأغرق في حكايتكِ، يا تُرى ماذا تُخفين ياسمين؟! حنان بذهول تُحدث نفسها.



error: المحتوي محمي