المنبر الحسيني حضور وعطاء  

عندما كنا صغارًا، تعي الذاكرة ما كان يحدث في داخل أسوار مجتمعنا، قبل أكثر من خمسين عامًا كان موسم عاشوراء الحسين (ع) ذا طابع روحاني، وتكامل إيماني، ومكانة عالية في نفوس الناس، وكان أهل الديرة بسطاء لكنهم أغنياء بالمثل والقيم الإسلامية الصحيحة، هم يعيشون مع أهداف وغايات الإمام الحسين سلام الله عليه.

نتذكر ليالي عاشوراء وأيامها، فمنذ اليوم الأول تبدأ مظاهر الحزن والحِداد بادية على وجوه الناس، ويكسو السواد الحسينيات، وفي الطرق والسوابيط والممرات، وفي كل مكان داخل سور الديرة، وفي اليوم الخامس من المحرم تغلق المحلات؛ الدكان والجزار والخبَّاز، ويتوقف الفلاح والصياد والحرفي، وتبدأ مسيرات عزائية متحركة تتقدمها الرايات والأعلام واللافتات التي كتب عليها شعارات واقعة كربلاء وقيم عاشوراء، وبصوت هادئ وبكل وقار يردد الرادود القصائد والشعارات والنواحي الحسينية ويلطمون على الصدور، وتتجمع مواكب العزاء في براحة الديرة، وفي اليوم العاشر تقوم ثلة من الأطفال والشباب والرجال بتجسيد واقعة كربلاء، ويتفاعل الجمهور مع المشاهد المؤلمة، إضرام النيران في الخيام، وسحق الأطفال، وسلب النساء، فيمتلئ طف يوم عاشوراء حزنًا ولطمًا وعويلًا.

نأتي الحسينية في وقت مبكر ونجلس أمام المنبر وننظر إلى الخطيب وهو يسرد السيرة الحسينية وإلى المعزّين الذين لهم حضورٌ قوي يصاحبه تفاعل حار مع المقتل، نبكي ونلطم معهم، ونبقى على هذه الحال حتى الليلة العاشرة، يوم شهادة الحسين (ع)، إننا نستعيد الآن ذكريات تلك الليالي العاشورائية، التي طالما شهدنا التفاعل الكبير مع المصيبة ولا ننسى تلك الاستماتة من خطيب المنبر الحسيني في استعمال المفردات الشائعة من واقعة كربلاء، والقصائد التي تجسد هول المصيبة وألم الفاجعة، ويرسل الصيحات العالية ونبرة الصوت الحزين أمام الحشد الكبير من المستمعين حتى بات بعض الخطباء يهزون أو يكسرون أعواد المنابر، ليستثير عواطف الحضور ويحرك مشاعرهم والنخوة في قلوبهم، ويستفزهم للتفاعل، فكان يمزج بين نبرة الصوت وسرد الأحداث الأليمة، سعيًا وراء توفيق عشاق الحسين (ع) بالدمعة والبكاء، وكنا نستمع إلى خطباء المنبر يرددون القصائد باللغة العامية ومعظمها للملا عطية بن علي الجمري -يرحمه الله- تلك صورة خطيب المنبر الحسيني والتأثر الذي ينتابه وحالة التفاعل التي تصدر من المستمعين أيام زمان.

بعد هذه المقدمة يلزم بنا التحدث عن خطيب اليوم ودوره في تطوير المنبر الحسيني.

الخطابة موهبة وثقافة معًا، والموهبة لا تؤتي ثمارها المرجوة إلا بالمران والصقل، والتزود من الدين والأدب والعلم والتاريخ، وكما هو معروف فإن الخطيب الحسيني يتميز بمواصفات يستطيع من خلالها تحريك عواطف السامعين، فالخطيب يرسل العبارات البليغة والإشارات والنبرات من وحي المصيبة. ينبغي للخطيب أن يعنى بتجديد ثروته العلمية ومتابعة تطور الفكر الإنساني خشية أن يتورط في حمأة الابتذال.

إن الخطيب الذي يقرأ شعر فطاحل الشعراء، ونثر كبار الناثرين، وخطب الخطباء الخالدين في التاريخ، وحضور مجالس مراجعنا العظام وعلمائنا الأعلام، لهو الخطيب الذي يضفي على أفكاره الأثواب التي تتمشى مع جلالها وجمالها، وبالصورة الأخاذة، والآراء الحقة، والاستشهادات التاريخية الصحيحة، لكي يجد السبيل إلى عقول سامعيه وشعورهم.

والمعروف عن الخطيب الحسيني أنه يملك وسائل الإقناع، وهذه تعتمد على طريقة الإلقاء، فالخطيب القارئ الذي يتلو خطابه من أوراق يحملها بيده، لا يجد السبيل إلى عقول سامعيه وشعورهم، أما الخطيب الحافظ فهو الذي يلقي خطابه عن ظهر غيب كما يلقي الطلبة النصوص الأدبية في المدارس، يكون أسيرًا لألفاظ رصها وعبارات رصفها، وأما الخطيب المرتجل فهو الذي يتدفق خطابه من وحي الخاطر وحاضر البديهة.

وما بنا من حاجة إلى الكلام عن الخطيب القارئ والحافظ، فكلاهما ليس من الخطابة في شيء. والخطيب المرتجل هو الجدير بهذا اللقب. ومن الأوهام الشائعة أن الارتجال الخطابي يعني أن الخطيب ينهض إلى المنبر ولم يكن قد أعدّ خطبته من قبل بل إن ذهنه خلى من الحديث الذي سيخوض فيه، وهذا ثرثار صَخَّاب، لا خطيب مصقع، وكل بضاعته عبارات طنانة رنانة لشد ما لاكها حتى حفظها عن ظهر قلب، فأصبح يتاجر بها في كل موقف خطابي. ولا يستطيع المرء أن يرتجل الكلام في موضوع؛ إلا إذا كان قد درسه من قبل دراسة دقيقة عميقة، وليس بقادر على الارتجال في المواقف الخطابية، إلا الخطيب المثقف ثقافة عالية، صاحب الاطلاع المستفيض في الدين والأدب والتاريخ والعلم والفلسفة، ثم لا بد له من إعداد موضوع الخطبة، بل عباراتها قبل إلقائها، على ألا يكون أسيرًا لألفاظ رصها، وعبارات رصفها، مخافة أن ينحدر إلى مستوى الخطباء الحافظين.

في الآونة الاخيرة ظهرت مجموعة من الأصوات تنتقد بعض الخطباء في محاولة منهم لتصويب أهداف المنبر الحسيني، إضافة إلى تطويره ليواكب التقدم العلمي واللحاق بركب ما وصل إليه العالم في القرن الواحد والعشرين، فقد بدا واضحًا أن المنبر الحسيني قد يخسر الكثير على المدى الطويل إن لم يتم تغيير النبرة الوعظية، فبعض خطبائنا من الجيل الحالي يعانون من الجفاف المعرفي والثقافة المتجددة وهذه مشكلة تكاد تكون شوكة في خاصرة الخطيب، وهذا حال البعض من الجيل الجديد وليد التواصل الإلكتروني، وأصبح الكتاب الورقي يعتريه الغبار وبقي على الأرفف دون قراءة، ولسنا هنا في وارد الإساءة لموقع الخطيب أو التشكيك في توجه المنتقدين؛ وأيضًا ضد استعمال عبارات التهكم والنقد الجارح فضلًا عن كون الخلط وتعميم الظاهرة يترك أثرًا سلبيًا على جهود الخطباء المميزين المبدعين في مجتمعنا، إنما قناعاتنا جاءت بعد حضورنا واستماعنا لبعض خطباء المنبر الحسيني، والنقد المستمر من خطباء وكتَّاب ومثقفين، يبدو واضحًا وجود فراغ معرفي في هذا الموقع، وأن نبدي الرأي في هذا الجانب لأهميته العقائدية والاجتماعية، ونؤكد بأن المنبر الحسيني سيظل -إن شاء الله- عطاؤه مستمرًا ويتجدد مع تطور العلوم والمعارف والتقنيات الحديثة للاستفادة أكثر في نشر أهداف الإمام الحسين سلام الله عليه في العالم كله.

وأخيرًا، أحببت أن أختم المقالة بكلمة منقولة من كتيب تحت عنوان “سر العزوف عن حل الأزمات الاجتماعية” للشيخ الجليل علي حسن آل زايد، فقد تطرق الشيخ إلى دور كلمات التشجيع في تألق خطيب المنبر، حيث قال: “الخطيب حين يلقى مجلسًا فتتلقفه الألسن بالثناء، فإن هذا الخطيب سيشق طريقه نحو النجاح، وأما إذا انهال عليه الناس بالنقد والتجريح، فإن هذا الخطيب قد يؤول أمره إلى الفشل!! وفي الحقيقة كنت أتوسم في بعض الخطباء البروز والتألق، وإذا بي أراهم قد انزووا وانعزلوا عن ساحة المنبر الخطابي؛ فانتابتني الدهشة!! ولكن إذا عرف السبب طار العجب، فقد عرفت أن أهم سبب دعاهم نحو الانزواء هو ضعف التشجيع!! فبعض الناس يريد خطيبًا بارعًا ويملك صوتًا شجيًا أو جميلًا دون أن يكون له أدنى إسهام في بنائه، فكلمة أحسنت وبارك الله فيك! وحدها ليست كافية في تنمية الطاقات ورفع الهمم! نعم إتاحة الفرصة لهم بالقراءة، هو خير سبيل لتنمية قدراتهم؛ فالخطيب اللامع لم تظهر شمسه من يوم ارتقى المنبر!! وإنما بعد محاولات عديدة، كان خلالها يصحح هفواته، وهكذا حتى استطاع أن يقف على قدميه في إطار الخطابة، فلمع شخصه وذاع صيته، فكذلك ينبغي أن يتعامل مع الخطباء الذين يحتاجون الوقوف معهم. فعلينا أن نسهم في رفع مستواهم، من خلال إتاحة الفرصة لهم، ليكونوا سنابل خير للبلد في المستقبل القريب.



error: المحتوي محمي