النقيضان
البَلادَة بعينها!
من المعلوم عن الدراسة الحوزوية أن يكون الطالب فيها تلميذاً في حلقة أستاذ، وأستاذاً لمجموعة من الطلاب في حلقة أخرى، يدرّس كتاباً يفترض فيه أن استوعب مطالبه وحاز ملكة شرحها لغيره، فهو أستاذ وتلميذ في آنٍ واحد.
وهذا ما حصل لي في سورية، حيث كنت أعطي دروسًا في (خلاصة المنطق) لأحد الطلبة، ولكنه كان بطيء الاستيعاب لدرجة أنّي أعيد الدرس سبع مرّات وربما وعشراً، ومع ذلك لا يستوعب شيئاً منه، فضلاً أن يهضمه كلّه ويعيد شرحه.
وذات يوم شرحت له مطلبًا – وهو فكرة الدور والتسلسل – لعدة مرات كالعادة، وطلبت منه أن يذاكر المطلب الذي طرحته اليوم، وفي الغد سوف نرى النتيجة.
في اليوم التالي بدأ يشرح ما راجعه، ولم تزل المعلومة بعيدة المنال عن ذهنه، فبدأتُ أكرّر الشرح مرةً بعد مرة، وطريقة بعد طريقة، وبقي المطلب مبهمًا على الطالب إلى عشر مرات.
بدأت أتساءل متفكّرًا:
يا ترى، ما مشكلة هذا الطالب؟
هل هي نقص في قدراته العقلية؟
أو إهمال وتكاسل منه في متابعة ومراجعة دروسه؟
أو الخلل يكمن عندي، فربما أسلوبي في توصيل المعلومة لا يتناسب مع استيعابه لها؟
ومع كلّ تلك التساؤلات، إلّا أنّ لكلّ نفس طاقة تحمّل محدودة، فإذا ما استنفدت مخزونها، مشت بصاحبها في طريق تنتهي به إلى ما لا يرغب فيه هو، ولا يحسده الناس عليه، لذا وجدتني أغلق الكتاب، ولا أخفي عليكم مشاعر الغضب التي تملّكتني، قائلاً له:
ابحث لك عن مدرّس غيري!.
الأفغاني النبيه
وفي جلسة أخرى كنت أدرِّسُ اثنين من الطلبة كتاب (أصول المظفر)، وصلنا لنقطة أردتُ من أحدهما إعادة شرحها ليتضح استيعابُه لها، فشرحها شرحًا ناقصًا، وكذلك أخوه.
وكان في مجلس الدرس يومذاك شخص أفغاني، اسمه (مسلم)، ليس له علاقة بدرسنا، وهو ليس طالب علم، إنما كان جالساً يتصفّح جريدة محلّية، فقال الأفغاني:
أنا أشرح المطلب والفكرة.
لما أعطيته الفرصة بيَّنَ المطلب بشكلٍ متقنٍ وتام.
وفي يوم آخر طلبتُ أيضًا من الطلبة إعادة شرح فكرة أصولية، والأفغاني موجود، فناديته وسألته:
هل تستطيع توضيح نكتة الفكرة الأصولية التي شرحتها للطلبة؟
فما كان منه إلّا أن وضحها بدقة محكمة.
فقلت له:
ما رأيك أن تحضر درسنا؟
فذكاؤك لا ينبغي أن نفرّط فيه.
استجاب الرجل الأفغاني لطلبنا، وبعد أسبوع من حضوره اقترحت عليه أن يتجه لطلب العلم الديني الحوزوي، فإنّ رجلًا بهذه الفطنة والنباهة يُتوَقعُ منه أن يكون عالمًا محصِّلاً بلا ريب.
وانقطع الدرس، ولم أرَ الأفغاني لمدة سنة تقريباً، ومرّت الأيام، فأخبرني أحد الأصدقاء أنّ رجلًا اسمه “مُسْلِم” يبحثُ عنك منذ فترة.
فذهبنا لزيارة (مسلم)، وإذا به الأفغاني نفسه، وتعانقنا مرحبين بعد انقطاع وطول غيبة، وأخبرني أنه استجاب لمقترحي وصار واحداً من طلاب العلم الذين لهم شأن في الحوزة.
درس مستفاد
قد يكون شخص بكامل زيّه الديني غير محصّل وضعيف الفهم وناقص الإيمان وعديم الأخلاق، وقد يكون شخص بزيّه المتواضع عالمًا ونبيهًا، ظاهره الإيمان، وتلمس في سلوكه وتعامله مع الآخر سموّ الأخلاق، فلا عبرة بالهيأة والعنوان إذا لم يكن المعنون مطابقاً إليه.
والأمر الآخر الذي يمكن أن نفيده من هذين الموقفين المتناقضين، هو أهميّة أن يلتفت الإنسان إلى مواهبه وميله بشغف إلى تحصيل نوع من العلوم دون آخر، أو ميله إلى ممارسة نشاط أو مهنة يدوية دون أخرى، فيذهب إلى المكان الذي يحقّق فيه ذاته مستمتعاً بما يعمل فكراً وجهداً بدنياً، فهو من بديهيات النجاح في الحياة، وقد قيل:
“ليس المهم أن تعمل ما تحب، بل أن تحبّ ما تعمل”.
أجنحة الحسين (ع)
سوف نتوقف شهراً واحداً وهو شهر محرم الحزين، وفي هذا الشهر سوف أعيد قراءتي في بعض المجلدات، وسوف أقرأ ما لم أتمكن من قراءته في كتاب رائد *(موسوعة الإمام الحسين (ع))* للرّيشهري (قدّه)، وهو – بنظري القاصر- أفضل ما كتب عن الإمام الحسين مطلقاً، وهو مشروع رائد محقّق.