قبل عدة عقود من الزمان، كنا نسمع كثيرًا عبارة “صير أحسن منه” من كبار السن (الشيبان) رحم الله الماضين منهم، وأطال في عمر الباقين ومتعهم بالصحة والعافية، ولهم منا كل الاحترام والتقدير، فهم الحكمة والخير والبركة، ومصدر مهم وملهم في كثير من الأمور المعرفية والعملية والحياتية.
وبالرغم من محدودية معرفتهم بأمور القراءة والكتابة، لظروف انعدام فرص التعليم، إلا أن تجاربهم في شتى المجالات بها الكثير من العبر والدروس المستفادة، والتي تستحق التوثيق ليتعلم منها الأجيال.
في زمن الطيبين كما يحلو للبعض تسميته، بالرغم من وجود الطيبين والأخيار في مجتمعنا على مر العصور، كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح ذات البين أمرًا محببًا؛ لما له من الثواب الجزيل والكثير، وما له من أهمية في ضمان تماسك المجتمع وعدم تقطع العلاقات بين الناس.
كان هذا العمل التطوعي يلقى ترحيبًا كبيرًا من جميع أطياف المجتمع؛ مما شجع الكثيرين والمؤهلين لأخذ زمام المبادرة، ليكونوا رسل سلام في النزاعات والاشتباكات، بعكس ما عليه الأمر في وقتنا الحاضر، فالمبادئ والقيم ثابتة لا تتغير عبر السنين والأجر والثواب من رب العالمين مضمون لمن أحسن النية في نصحه وعمله، ولكن التغيير طال البعض من أفراد المجتمع وأصبحت ثقافتهم في بعض الأمور والممارسات والسلوكيات مختلفة عما كانت عليه في الزمن الماضي، حتى أصبحت في مثل هذه المواقف عبارة “مو شغلك” أو “خليك في حالك” أكثر شيوعًا من عبارة “جزاك الله خيرًا”، وفي بعض المواقف يكون الناصح معرضًا فيها للإساءة أو ينتابه ضرر، لذلك يفضل البعض المشاهدة من بعيد مكتفيا بعبارة “ما لي شغل فيهم”.
حتى وإن لم نكن أطرافًا مباشرين في بعض النزاعات أو المشكلات، فربما يطالنا بعض من الشرر المتطاير، فنحن جزء من مجتمع عرف عنه الترابط والتلاحم وحب الخير للآخرين، لذلك الاكتفاء بالفرجة وتبني عبارة “فخار يكسر بعضه” لا تجدي نفعًا في بعض المواقف، فعندما تلتهم النيران منزل جارك لا يمكنك الاكتفاء بالمشاهدة دون أن تحرك ساكنًا، وإلا فإن النيران ستأخذ طريقها إلى دارك بكل سهولة ويسر.
من الضروري جدًا البعد عن استخدام العنف والكلمات البذيئة عند تقديم النصيحة، بل يكون بكلام طيب واحترام وأسلوب حسن ورفق، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩] فالأسلوب الحسن يلعب دورًا رئيسًا في تحفيز الآخرين، وتقبلهم النصيحة للقيام بما يستحسن من الأفعال والتصرفات، وترك كل ما قبّحه الشرع وحرّمه، وفي بعض الأحيان كرهه العرف.
كانت تستخدم عبارة “صير أحسن منه” في الشوارع والبيوت، وكان لها مفعول السحر في ضبط النفس وحل الخلافات بشكل ودي وسريع، فعندما يشتد الوطيس ويتبادل أطراف النزاع -على مرأى ومسمع من جميع المارة- جميع أنواع الشتائم (السباب) التي تعجز حتى معاجم اللغة عن ترجمة بعضها، وربما تتحول بعد ذلك إلى معركة طاحنة يستخدم فيها المتنازعون كل ما هو في متناول اليد وقابل للقذف، فترى العلب المعدنية والزجاجية الفارغة والأحذية -أجلكم الله- تتطاير من كل حدب وصوب، هنا يتدخل الحكماء من الناس غير مبالين بما قد يتعرضون له جرّآء دخولهم في وسط المعمعة، محتسبين الأجر والثواب من رب العالمين مرددين “صل على النبي وصر أحسن منه”، عبارة سهلة وبسيطة ومفهومة للجميع، وكفيلة بأن تنهي النزاع بامتثال أحد الأطراف ليكون أحسن من الطرف الآخر، وليسدل الستار على العرض ويفسح الناس الطريق.
الشارع مسرح مفتوح ومكان للفرجة ولكشف المستور، وهذا يتعارض مع رغبة المولى -عز وجل- حيث أمرنا بالستر، وفي الشارع الكثير من المتطفلين (الملاقيف) ممن تسرهم مشاهدة مثل هذه المناظر كما هو عليه الوضع الحالي في بعض ساحات التواصل الاجتماعي، فالبعض لا يكتفي بالفرجة مع مبدأ “اللي ما يشتري يتفرج” ولكن يستمتع ويتلذذ بشكل أكبر عندما يقحم نفسه من غير سنع، بل إن البعض منهم يتباهى بأنه من ساعد في سكب الزيت على النار وإشعال فتيل الفتنة بدلًا من إخمادها؛ لكي لا تطال نيرانها الأخضر واليابس، وبالتالي تحويل الخلافات الشخصية إلى خلافات متعددة الأطراف وربما تصبح بعد ذلك قضية مجتمعية (سوّى من الحبة قبة) تتطلب تدخل العقلاء من رجالات المجتمع، ولربما تأخد القضية منحًى أبعد من ذلك. استنزاف لطاقات المجتمع في أمور لا تستحق، وكان من الأجدر أن تستثمر تلك الطاقات في أمور أكثر أهمية تعود بالنفع والفائدة على الجميع.
في زمن الطيبين، كان احترام الكبير أمرًا لا يختلف عليه اثنان وما زال معمولًا بهذا المبدأ في مجتمعنا في الوقت الحالي، وإن لم يكن على نفس وتيرة الماضي، وربما يعود ذلك؛ لأن فئة كبيرة من جيل الشباب الحالي أصبح يتمتع بثقة مفرطة في النفس بأنه لا يقل شأنًا عمن يكبره سنًا، ويمتلك من المعرفة ما يغنيه عن الاستماع إلى نصائح وإرشادات الآخرين.
لا شك أن الوصول للمعلومة أصبح بفضل التطور التكنولوجي أكثر سهولة مما كان عليه سابقًا، ولكن الكثير من التجارب الشخصية لا تجدها مدونة في مدرسة “قوقل” كما أن اكتساب الأخلاق الحسنة وتنشئة الأجيال تنشئة صالحة، يعتمد بشكل كبير على الناحية التطبيقية والعملية والاستفادة من التجارب ذات الصلة بثقافتنا، بالرغم من أهمية الناحية النظرية، فاحترام الكبير هو خلق إسلامي في المرتبة الأولى، كما أن العلم النافع لا يقوم إلا بأخلاق حميدة.
“صير أحسن منه” هي ليست دعوة للتنازل عن الحقوق والسكوت عن الظلم وقبول التصرفات الخاطئة أو الإهانات، كما أن عدم الرد بالمثل ليس عجزًا، والتسامح مع المسيء ليس خوفًا أو عيبًا، بل من شيم الكرام، “صر أحسن منه” هي دعوى لتهدئة النفوس، ولحل النزاعات والخلافات والمشكلات بطريقة ودية وراقية، بعيدًا عن التجريح والتشهير والأساليب الهمجية، التي غالبًا ما يكون ضررها أكثر من نفعها، كما أن هذه الأساليب لا تتناسب مع تعاليم ديننا وتربيتنا وثقافة مجتمعنا، ويجب أن تناقش الخلافات في الزمان والمكان المناسبين لمعالجة مثل هذه الموضوعات وطرحها، وإن تتطلب الأمر اللجوء للقنوات المختصة للحفاظ على حقوق أطراف النزاع.
“صير أحسن منه” هي عبارة تحفيزية لتكون أكثر تعقلًا وأخلاقًا وتسامحًا من الطرف الآخر، فإن أخذت بها فقد ارتقيت بنفسك لمرتبة تكسبك احترام الآخرين، وتجعل منك قدوة حسنة في التسامح، وفي موقفٍ ما، وعندما يمتعض شخص ويمتنع عن القيام بواجباته أو ترك عمل محبب، مستشهدًا بأن فلان من الناس لم يؤد ذات العمل فعبارة “صر أحسن منه” هي الوسيلة لإرشاده وتوجيهه بأن القدوة الحسنة التي يحتذي بها يجب أن تكون نموذجًا مشرفًا وحسنًا في التصرفات الجميلة والسلوكيات المرغوبة والبعيدة عن التقصير في الواجبات والشبهات. هي دعوة لتكون كلماتك وتصرفاتك حتى مع المسيئين حسنة، وانعكاسًا لجميل تربيتك.
آيات صريحة في القرآن الكريم، بالإضافة للأحاديث والروايات الكثيرة عن العترة الطاهرة عليهم أفضل الصلاة والسلام في فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: ١٠٤] وروي عن أبي جعفر الباقر، أنّه قال: “إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصلحاء، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب، وتحلّ المكاسب، وتردّ المظالم، وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر” (وسائل الشيعة، جـ 11)
“أمرًا بالمعروف” شعار جميل من شأنه أن يرسخ بين أفراد المجتمع مفهومًا وعملًا نبيلًا، كما من شأنه أن يحدث تغييرًا إيجابيًا ويسهم بشكل كبير في بناء مجتمع صالح؛ مجتمع واعٍ بواجباته، راقٍ في تصرفاته، مفتخر بشبابه وبناته، متمسك بتعاليم الدين، ومبتعد ومقاطع ومستنكر لكل ما هو دخيل على مجتمعنا من سلوكيات وأخلاقيات تتعارض مع المبادئ والقيم التي أرسى حدودها الشارع المقدس، فالإيمان بوجود فرصة (خط رجعة) لتعديل المسار وتصحيحه خير من مواصلة المشوار في الاتجاه الخطأ.
قال الإمام الحسين (عليه السلام): “إنّي لم أخرج أشرًا، ولا بطرًا، ولا مفسدًا، ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أُمّة جدّي مـحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)”.