فاعتـزلوا النساء

اتصل بها ليطمئن عليها، وإذا بها تبادره بالقول: “أنت لم تعد تحبني، ولا تكترث لأمري، لقد تغيرت كثيرًا”.

فتعجب من قولها، وحين سألها عن سبب كلامها، أجابته: “لقد أرسلت لك أكثر من رسالة وكان ردك متأخرًا بالرغم من أنك كنت متصلًا”؛ فزاد تعجبه من أمرها، وتساءل في نفسه ماذا جرى لها؟
ثم بعد أيام من حالة الصمت بينهما، بادرته متعجبةً من أمره، وحين أخبرها بمقالتها أرخت رأسها حياءً من نفسها، وقدمت له اعتذارها؛ إذ لم تكن قاصدة ذلك مطلقًا.

هذا المشهد يتكرر كثيرًا بين المتزوجين، بهذه الكيفية أو بصورٍ مختلفة، تمتد من حالة الحساسية الزائدة، وربما البكاء في بعض الحالات، وقد يصل الأمر إلى الانفعال والعصبية، وربما إلى التعدّي على الآخر بالقول أو الفعل، وكلُّ ذلك نتيجة ما تمرّ به الزوجة في مرحلةٍ حسّاسةٍ من أيام الشهر تتكرر دوريًا، لذا كانت مثار استفهام منذ القدم، وهذا ما يؤكده صريح القرآن الكريم، يقول الله تعالى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} “البقرة: 222”.

وفي هذه الآيةٌ القرآنيةٌ أمر صريحٌ من الله سبحانه، لمعالجة هذه الحالة يقول الله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}، فماذا يُمكننا أن نفهم من هذه الآية المباركة، وأي توجيهٍ يُمكننا أن نستقيه منها؟

إننا حين نراجع ما قاله المفسّرون في هذه الآية كالعلامة الطباطبائي في الميزان، والمرجع الشيرازي في الأمثل، وغيرهما، نجد أنهم أرجعوا الأمر إلى الحكم الفقهي الذي يقول بحرمة الجماع بين الزوجين في فترة العادة الشهرية، كما أنهم ربطوا هذه الفقرة من الآية المباركة بما بعدها؛ حيث يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}، وهذه الفقرة الثانية من الآية الكريمة لا جدال فيها مطلقًا، فكون المرأة في هذه الفترة الزمنية وما تُعانيه فيها من ألم أكده الله تعالى في بداية هذه الآية بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}، تفقد الاستعداد لهذه الممارسة، بل والنفور منها، وأي رجلٍ يحترم نفسه سيُبادلها ذلك أيضًا، إلا أنه يُمكننا أن نستنتج من الآية الكريمة إرشادًا إلهيًا عظيمًا يرتبط بآلية التعامل مع المرأة في فترة العادة الشهرية، ويتمثل ذلك في قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}، فما ذلك الإرشاد؟

إن كلّ متأملٍ يُدرك بوضوحٍ أن فترة العادة الشهرية تُمثل مرحلة زمنية مختلفة تعيشها المرأة، كما أن النساء يختلفنَ في طبائعهن أثناء هذه المرحلة، ويبقى العامل المشترك هو أنها مرحلة حسّاسة للمرأة تظهر فيها بطبيعةٍ تُخالف ما تظهر عليه في غير هذه الفترة الزمنية، وبعضهنّ تعيش هذا التغيّر قبلها بأيام.

وهنا، يأتي التوجيه الإلهي بأمرٍ صريح: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}، وهذا التوجيه ليس له علاقة بممارسة الجماع، بقدر ما له علاقة بطريقة التعامل مع الزوجة، فهو توجيهٌ آخر يُضاف إلى الامتناع عن الجماع في هذه المرحلة، ولذا أردف الباري تعالى بعد هذه الفقرة مباشرة بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}، مما يعني أن هذا توجيه آخر غير التوجيه الأول، فما ذلك التوجيه الذي قد يغيب عن أذهاننا، وبسبب غيابه تُعاني النساء ما تُعانيه من عدم التعاطي السليم معهنَّ في هذه الفترة الزمنية الحسّاسة؟

قد يخطر ببال البعض أن نجعل المرأة في عزلةٍ كاملة حتى تنتهي هذه الفترة، ثم تعود إلى حياتها الطبيعية، وهذا الرأي لا يقبل به عاقل، فكيف السبيل إلى فهمٍ يتوافق مع الرحمة الإلهية بالمرأة؟
وهنا أقول: “لا يقتصر التواصل مع المرأة في العلاقة الزوجية على الجانب الجسدي والمادي فحسب، وإنما هناك جانبان آخران مهمّان أيضًا، ألا وهما الجانب الفكري والعاطفي الإنساني.

وإذا كان اللقاء الجسدي ممنوعًا في هذه الفترة، بحكم الشرع والفطرة والعقل أيضًا، فإنه ولا شك لا يدخل ضمن دائرة فهم هذا المقطع من الآية الكريمة، وهنا يبقى أمامنا التواصل الفكري والعاطفي الإنساني، فما الإرشاد الإلهي المرتبط بهذين الجانبين؟

هنا، تأتي قاعدة مهمة جدًا، ينبغي أخذها بعين الاعتبار، وهي: العقل والجسم يؤثّر كلٌّ منهما على الآخر، وباعتبار أن المرأة جسديًّا تكون متعبة ومتألمة، فإن ذلك ولا شك سيؤثر على الجانب الفكري والنفسي لديها، ومن هنا ينبغي أن تكون هذه الآية حاضرةً أمامنا، بأن نجعل المرأة في عزلة فكرية خلال هذه الفترة الزمنية، فلا حوار مصيري يكون في هذه الفترة، وحين يصدر منها عبارات قد تكون قاسية تجاه زوجها أو من حولها فلا نعتني بذلك قطعًا، ولا نُقرُّ بأيِّ قرار سلبي تتّخذه المرأة في هذه الفترة، حتى تنتهي بهدوءٍ وسلام، ثم بعد ذلك يأتي دور مناقشة كل القضايا التي تم تأجيلها، وبكل تأكيد ستكون النتائج مذهلة.

ولذا، نجد أن الله -سبحانه وتعالى- حين شرّع الطلاق وضع لإيقاعه شرطًا أساسيًا وهو أن تكون الزوجة في طهر، مما قد يلفت الانتباه إلى أن هذه المرحلة قد تكون سببًا لخلافٍ بين الزوجين، وقد ينجرّ أحدهما للطلاق، وهنا جاء التوجيه الإلهي بعدم صحّة الطلاق في هذه الحالة.

وكما ينبغي للزوج مراعاة زوجته في هذه المرحلة، فكذلك ينبغي للزوجة التأمل في نفسها قبل وأثناء وبعد هذه المرحلة، بحيث توجّه لعقلها رسائل واعية بأن تتجنّب أي جدال خلال فترة العادة الشهرية، وشيئًا فشيئًا تتحوّل هذه الرسائل الواعية إلى ممارسة تلقائية لديها، كما ينبغي عليها ألا تتّخذ من هذه المرحلة شمّاعة تعلّق عليها كلَّ سلوكيّاتها الخاطئة.

نعم، قد يحصل بين حينٍ وآخر تجاوزٌ من قبلها أو من قبل الزوج، وفي كل الأحوال لسنا معصومين، كما أن الزوجة بحكم ظرفها في هذه المرحلة تكون هي الحلقة الأضعف، وهذا يُحمّل الزوج جانبًا أكبر من المسؤولية، فيتعامل مع زوجته بإنسانية، بعيدًا عن الممارسات التي يُمارسها البعض من احتقار للمرأة، وعدم مراعاة لظرفها، وهذه السلوكيات ليست سليمة بتاتًا.

إن المرأة إذا لم تكن مستعدّة للتواصل الجسدي، ويعوزها التركيز الفكري، فذلك لا يُقلل من شأنها، كما أنه لا يحرمها من التواصل العاطفي الإنساني، إذ إنها تكون في أمس الحاجة إليه، فليتحمل الزوج المسؤولية تجاهها، وذلك توجيهٌ وإرشادٌ ربّاني خصّه الله تعالى بها، وينبغي أن نُحقّقه لها.



error: المحتوي محمي