عكاز وأمل.. (3)

لازالت كلماتها تتأرجح في ذاته، لا تخبو عن ذاكرته، ينظر إلى العُكاز، يضع أصابعه على خديه، أظنني في استغراق تام في وفاء، أدقق في لمساتها، أراقب عينيها، أمارس تحليل كلماتها، حتى العفوية منها.

لم تترك “وفاء” زيارته يوميًا، كلّما عادت من عملها، توجهت على الفور إلى حيث هو.

وفاء..، هذه الإنسانة الرّقيقة، الفنانة بالأبجدية، التي تبعث الحياة من خلال ما تكتبه، وسام الفنان التّشكيلي الذي لازال، يتنفس الفنّ من خلالها، العاشق إلى وفاء، الذي لا سبيل إلى احتضان عشقه إلا من خلال الفنّ، من خلال الأبجدية.

الشّوق..، المسافة بين قلبين، لهُما ذات الشّوق، وذات اللَّهفة، وذات الأنفاس، كيف لهذا الشّوق أن يتنفسه العاشق، ويرتشفه كأنَّه رائحة القهوة تنساب على شفتيها الحمراوين؛ ليُغمض عينيه في انتشاء تأمُلها.

ينظر إلى ساعته، الآن..، إنه وقت حُضورها، لم تأخرت؟ وسام يتوجس في انتظارها، انتابه القلق، لحظات هي، كحجم أشواقه الدّافئة، ارتشفت أذنيه ضحكتها مع أمه، حاول النّهوض، وضع يده على العُكاز، انحنى..، يُعدل الحذاء “الشّبشب”، وبينما هو يهمّ برفع رأسه إذ تقع عيناه على عينيها الباسمة الطّلة وهي تُرحب به، وتطمئن على صحته، وتُمسك العُكاز كي يستطيع الوقوف بأريحية.

جلست بقُربه..، بعدما رتبت له سريره ليستلقي، وهي تُشاغبه بوجنتيها الحمراوين.

صمت، يجتاح المكان..، قطعه ببضع كلمات:”كم اشتقت إليك يا وفاء”. وسام يشي بدفء، تسمّرت في ذاتها، مُنذ زمن لم تسمع كلمات، تُلامس قلبها، تُدغدغ مشاعرها، سنواتها الأخيرة مع زوجها، كانت سنابلها يابسات، وألوانها قاتمة الحُضور، الآن..، ترتعش، كأنَّها تُريد المزيد، والخجل باديًا على وجنتيها.

تذكرت فجأة قول الشّاعر نزار قباني، ذات شوق في إحدى قصائده:

وحين لا أقول أحبك فمعناه أنّي أحبك أكثر

أغمضت عينيها، تغرق في صوته، يتلبسها في غفلة من اليقظة، يُغدق ملامحها البوح، لتعزف سيمفونية انجذابها؛ لتكتب قصيدتها على نبض شفتيه..، كيف للغيمات ألا تُهدي حبات المطر، لتُزهر الأرض بالبنفسج والياسمين..، لأحكيه بين انحناء قوس قزح، وأميل..، لأنسجها من حُمرة وجنتيَّ أحرف الحُب، لتحتويه، لأخفيه ما بين رمشيَّ عن كلّ الزوايا إلا بي أسكنه في حالة إيحاء ذاتيّ، تُحدّث نفسها في وله التيه “وفاء”.

كلّما جمعهما اللّقاء، فإنَّ جُموح العينين في عناق اللّحظات كبرق، تؤطره جاذبية النّبضات، كالنّسمات ربيعًا، لتغرق في النّظرة، كرغوة اشتياقات مُتعب، وآهات أنثى، تستظل بخيوط الشّمس في حدائق عينيه.

في بعض المواقف، تتوقف عقارب السّاعة، الزّمن..، يفقد عنفوانه، العصافير تُغرد فوق أغصانها، ويبقى السّكون..، من عينيها إلى عينيه مسافة بصر، كم نجهل هذه المسافة، هذه الحكاية، التي لازالت تتراقص، كعصفور بلله المطر، فارتعش.

اعتاد “وسام” على رُؤية “وفاء” يوميًا مُنذ الحادث، لتزيد في وجودها بعده، لتهتم به، وتُحدّثه طويلًا، وتصنع له الطّعام، الذي يُحبه.

ما بكِ..، لم كلّ هذا التّأمل في وجهي؟ يسأل وسام في تعجب يشّوبه الحنين إلى دفء كلماتها

تُجيب على سُؤاله:

إنَّه السرّ الكامن في القلب..، القلب العاشق يُتقن فلسفة الولوج إلى الآخر، الذي يتنفس نبضاته، أكان من خلال لقاء عابر، أم نظرة عابرة، أم يجيء على شكل اهتمام؟ إلى كلّ هذه اللّمسات، التي تدخل دائرة الشُعور..، أراني الآن معك..، لا أستطيع توصيف حالتي إليك، أيكون وجُدنا مع بعض كلّ هذه الأيام، جعلني في أنس؟أتكون الحياة، تُعيدني إلى كياني، الذي افتقدته؟ لا أعلم يا وسام ما بي، ليس في جُعبتي لأفصح سوى التّأمل، رفقًا بي، لم أعد كما كنت سابقًا.

ثمّٓة أمور، لا يُمكن توصيفها، تعجز الأبجدية أن تقتحم كنهها، أن تُبحر في وميضها، كبريق عينيَّ في اشتهاء العناق، في الغرق على معصميك، اللّحظات..، تشي باللا حس، كغيبوبة تعتري الظلّ، لأجدني في هذيان البوح، ينقصني القرطاس، واليراع، الذي يكتبني..، أرجوك يا وسام، لا تُدخلني في علامة الاستفهام إلى التوغل في ذاتي أكثر، لأهيم في الكتابة بلا أدوات؛ فإنّي لا أقوى -حينها-على الصّمت، لتُبللني الأبجدية..، بي ما يسكن الذّاكرة، لا تنفك عن استحضارها، كالمرآة، تقرأني..، كالتيه..، قد تستفيق منه ذات لحظة، لتشعر بأنَّك لم تزل موجودًا فيه، لبعض وقت، أراه كلّ الوقت..، لطفًا، لتُحدثني عن يومك، عن صحتك، هل أخذت الدّواء، أم أحضره لك؟

تجربة “وفاء” في زواجها جعلتها شبه انطوائية على ذاتها، تُبحر في عالم القراءة والكتابة، الفن بألوانه القُرمزية..، اتجهت إلى هذا العالم بكلها؛ لأنَّه الأكثر تفهمًا لما تشعر به.

نحن غُرباء إلا من أنفُسنا، من اللّغة، التي تكون على خط الاستواء مع أنيننا، حنيننا، وتطلعاتنا، ومن الألوان، التي تُشاركنا الحياة في طبيعتها الخلابة.

هذه الكلمات نسجتها وفاء بيراعها، وعلقتها على الجدار في حُجرة مكتبها؛ لتُبصرها كلّما اشتاقت ذاتها إلى عناق القرطاس.



error: المحتوي محمي