عملية القراءة تخضع لنظرية التلقي، وهي نظرية حديثة نسبيًا، يشبهها قديمًا ما ورد من أحاديث حول المقام، أو الحال، أو الموقف؛ حيث العناية بسياق تكوين الجملة اللغوية، عبر النظر إلى الظروف الخارجية الفعلية التي احتوتها.
المقصود بالحال أو الموقف؛ مجموعة الحوادث والأشخاص والمستمعين، والتفاعل الذي يحصل بينهم، ضمن إطار يبيِّن الحالة النفسية والاجتماعية للحدث ككل؛ بمعنى أن الحال هو الأصل في فهم النص اللغوي، كما هو معمول به في تفاسير القرآن، أو شروحات الشعر قديمًا.
النص القرآني نصٌّ لغوي إلهي، لا يجوز بحال من الأحوال تركه عُرضة للتداول القِرائي دون توجيه، فالمعاني الربَّانية والمقاصد الإلهية، في حاجة إلى مَن يعمل على تكيِيفها مع التعاليم النبوية، وفق الأحوال الاجتماعية، والحوادث الطارئة أو الدائمة، كما في مسائل الإرث، أو مسائل الزواج والطلاق.
النبي (ص) خلال العهد الأول تولَّى بنفسه مهمة تفسير النص القرآني، بينما العهود اللاحقة شهِدت ولادة الكثير من الأتباع المؤمنين؛ الذين استوعبوا سيرته ومنهجه ومقاربته للأمور، فجاء القرطبي والرازي والباقلاني، وجاء أبو حنيفة والشافعي ومالك، هؤلاء ليسوا إلا نماذج لأشخاص قادرين على تفسير غوامض النص القرآني.
المنهج المتبع في مُقاربة النص القرآني؛ لم يتجاوز المقاربة النحوية والبلاغية والمعجمية والصرفية، وهي ما تلتقي ضمن ما عُرف بعلوم اللغة، التي كان لها أثر كبير في توجيه دفَّة الأحكام والترجيح بينها، من خلال فهمِ الآيات وإدراك مضامينها، ونتائجُها تُشاهد حتى اليوم، عبر الجامعات الدينية والحوزات العلمية.
ما يمكن الخروج به كخلاصة لهذا المنهج وامتداداته الكبيرة والمتشعبة، واتصاله بعدد من العلوم والمعارف في ذلك الزمان، مع الأخذ بنظر الاعتبار أهمية الموقف أو سبب النزول؛ سيكون التأكيد على ضرورة المقاربة اللغوية، وأنها الأساس والأصل الذي يُعتمد عليه، أما بقية المقاربات؛ كالاجتماعية والنفسية والعلمية، فهي تابعة وأقرب للثانوية.
هذا المنهج وإن كان منهجًا قديمًا استلهمه العرب من بيئتهم وثقافتهم، إلا أنه أثبت نجاعة ونجاحًا في مقاربة النص القرآني وكشف أسراره ومضامينه، وهو ما يثير الانتباه إلى نقطة غاية في الأهمية خلال العصر الراهن: هل يجوز تطبيق هذا المنهج على القراءات غير القرآنية؟
يمكن بكل يُسر تطبيق المقاربة اللغوية (بفروعها العديدة) على النصوص المختلفة، التي لا يجمعها رابط مع النص القرآني؛ كنصوص الفلسفة والفيزياء، كما يمكن أيضًا مقاربة الظواهر الثقافية، واكتشاف خطاباتها وآثارها ونتائجها، بل وكشف أخطائها ومزالقها، وهي مرحلة متقدمة في التحليل اللغوي.
تحليل الظاهرة الثقافية وتفكيك أجزائها ليس سهلًا ومتاحًا للراغبين؛ حيث يستلزم المعرفة بعدد متنوع من العلوم والمعارف؛ كعلم الإنسان القديم، والتاريخ، والنفس، والاجتماع، والنحو، والديانات، والجغرافيا، والبلاغة، والسكان، والأساطير، والسلوك، والفلسفة، والأخلاق، والمنطق، وغيرها من المعارف التي تنتمي إلى شعبة العلوم الإنسانية.
القارئ للحدث أو الظاهرة الثقافية؛ لا يحتاج إلى إلمام دقيق بكل هذه العلوم، وإنما إلى إلمام بأسسها ومنطلقاتها؛ ليستطيع القيام بواجبه، أي القدرة على القراءة السليمة والفاحصة، حيث يعمل على توحيدها وصهرها، ثم صبها ضمن بؤرة واحدة، هي بؤرة تحليل وتفكيك الأجزاء، وحينذاك تسهل قراءتها واكتشاف أسرارها.
قراءةُ الظاهرة مرحلة متقدمة من مراحل الدرس اللغوي، لكنها أعقد وأكثر تشابكًا، وفي حاجة لعين خبيرة؛ لتتمكن من رؤية داخله، مثلما رأت وأدركت خارجه، أمَّا السبب في هذا التعقيد والتشابك، فيعود إلى اختلاف تكوين كلٍّ منهما، حيث النص اللغوي مكونٌ من ألفاظ ومفردات، بينما الظواهر مكوَّنة من صور ومشاهد.
لا شك أن اللغة تحتوي تجريدًا كبيرًا؛ لهذا هي صعبة الإدراك، وفي حاجة لخيال قادر على إرجاع المفردات والعبارات إلى أصل محسوس ومشاهد؛ ليستطيع كلٌّ من المتكلم والمستمع إدراك المعنى وفهم المقصود، أما الأحداث والظواهر، فهي واقع وجده وشاهده وأدركه؛ لذا يحتاج في مقاربتها إلى ثلاثة أمور: أولًا التأمل الدقيق، ثانيًا تحليل المكونات المختلفة، ثالثًا البحث عن الهدف من ورائها.. والله من وراء القصد.