مرّ يومُ الأربعاءِ، السَّادس من تموز/يوليو 2022م، قبيل عيد الأضحى، ثقيلًا في جزيرةِ تاروت حيث رحل عن دنياها أستاذٌ وأخوان شقيقان -توفيق وعبد الله آل سباع- بفارق ساعتين تقريبًا عن بعضهما، ورابع شابّ. ليس لدينا سوى الطلب من الله أن يسكن لوعةَ قلب كل فاقد، وخصوصًا فاجعة الأخوين من آل سباع! في هذه الخاطرة، أخص بالتفصيل، الأستاذ علي عبد الله معيلو لمعرفتي به ولفضله عليّ.
كان بيتنا قريبًا جدًّا من بيت الأستاذ علي، وفي سنوات ما قبل السبعينات لم يكن في جزيرة تاروت كهرباء، فبعد أن تغيب الشمسُ ويحل الظلام ينقطع المارّة في الطرقات، إلا من كانت له حاجة. مادة الحساب، ومسائِل البيع والشراء والربح والخسارة، كانت معقدة عندي في الصفوف الابتدائيَّة. في ذلك الوقت كان واضحًا اهتمام المعلمين بالواجب المنزلي، نادرًا ما يمر يوم دون واجب منزلي، في الرياضيَّات والعلوم وغيرها من المواد التعليميَّة! ولأني كنت راغبًا في التعلم وخائفًا من الفضيحة والعقاب في اليوم التَّالي، أذهب بعد العشاء إلى بيت الأستاذ علي. بيتهم يبعد عن بيتنا مائتي مترٍ تقريبًا، وتلك مهمَّة مخيفة حين تكون طفلًا تمشي بين سوادِ النخيل في الليل، بين نخلةٍ وأخرى كلب ينبح، تمتلئ نفسي بالرعب ويشطّ بي الخيال حتى لحظة طرق باب بيت الأستاذ!
في كل مرة قصدته، رأيته منكبًّا يدرس بجدٍّ واجتهاد، على ضوء مصباحٍ أو فانوس كيروسين خافت، يفهمني ما استعصى عليَّ من المسائل بكل انشراح، وكأنه أحد إخوتي. ولكم أن تتصوروا ابتهاجي صباح اليوم التَّالي في الصفّ، وسعادتي بين أقراني، بأنني أديت الواجب، وحصلتُ على العلامة الكاملة.
“من تعلمتُ منه حرفًا صرتُ له عبدًا”، لم أنسَ فضل الأستاذ علي معيلو، ذلك الأستاذ الفذّ، جمّ التواضع. أستاذ لم أشاهده إلا خارجًا أو داخلًا إلى محفلِ عزاء أو عرس، يبدأ بالسلامِ والتحيَّة، وهو الأستاذ الأكبر سنًّا وقدرًا! أين يقع تفخيمنَا وتبجيلنَا للمعلمين -ذكورًا وإناثًا- من عطاء هؤلاء؟! إذا ما رأينا أنفسنا أطبَّاء، مفكرين، مهندسين، حرفيين، فذلك كله من عطاء الأستاذ والمدرس، تمامًا مثلما كان الأستاذ علي عبد الله معيلو.
سوف تفتقد المجالس في شهر رمضان حضور الأستاذ علي، وهو الذي كان يقرأ القرآن سنواتٍ طويلة في أماكن كثيرة، ثمّ يستمع المحاضرة الدينية ويناقش ويسأل! هو الآن من الذين يوجه لهم الخطاب: اقرأ وارقَ ورتِّل كما كنتَ ترتِّل في دارِ الدنيا، فإن منزلتكَ عند آخر آيةٍ كنتَ تقرأها!
الرجاء من الله أن يكون كل من ماتوا عبروا صحراءَ الدنيا، وانتهى بهم عناءُ الطريق إلى حيث الخلود والراحة في الجنان. وأن يجعل من خلفهم من الذين بشرهم، فقال عنهم {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.