صانعة القهوة «5» والأخير

مرّ أسبوع، استعاد عافيته، كانت فادية تُباشره، تُوفر له سُبل الرّاحة، قرأ خلال هذا الأسبوع ثلاث روايات أبية، كلّما انتهى من واحدة أحضرت له فادية أخرى، نهم جدًا في مائدة القراءة، شغفه الذي لم تعوزه الذّاكرة المنسية، تمتم: أين أسرتي؟ يا تُرى هل ستُسعفني الذّاكرة في معرفة من تكون أمي وأبي؟ ألديّ أخوة وأخوات كباقي النّاس أم أكون مقطوعًا من شجرة؟! ينتحب في ارتعاش السّؤال.

أمي، كأنّي أنسج تفاصيل ملامحها في مُخيلتي، أبي أراني ألامس نبضات قلبه الآن بين نبضاتي.

لا أعلم، لماذا أجدني عندما أقرأ أشعر بهما، بأنفاسهما، هل هما قريبان مني ولم تقع عيناي عليهما؟! احتقنت الأمنية في خفقاته.

يبقى الإنسان في بحث مُستمر عن ذاته، عن الوجوه الغائبة في دُنياه ليكتشف وجودها.

البحث الدّؤوب يشي عن مدى الرّغبة التي تخترقنا؛ لنقف في كلّ محطات القراءة ونُعبر عنها في الكتابة. جُملة توقف عندها، أعاد قراءتها مرارًا. هكذا عبارات نتأملها، لنُبحر في ذواتنا أكثر، ثمّة ما يُغري ذاكرتنا أثناء القراءة. يقُول إلى فادية بعد أن أطبق دفتيّ الرّواية، ليستريح قليلًا، مُحدقًا في عينيها، وهي تُصغي إليه بكلها.

ما لي أراك هائمًا؟ فادي واقف أمامه وابتسامته كعناق يلفه.

ها، أنت أخيرًا! يُناديه باحثًا عن ذاته فيه.

أعلم، تضجّ في مسافات عقلك الأسئلة، سأخيرك، ولكنّ الجزء من ذاكرتك لا أجده يعُود، نحن نحتاج إلى النّسيان غالبًا، لنُنعش ذواتنا، ونُقبل على الحياة بشكل أفضل. يهمس في عينيه، كرائحة البوح.

خُذ نفسًا عميقًا، استرجع الماضي، حيث كنت معك، وفي اللحظات، التي كنت فيها الغياب الواقعي معك، وفي هذا الطّيف، الذي تتقمصه خيالًا، لتجدني معك، كلّ هذا؛ لأنَّك تشبهني، كلانا كنَّا معّا، ابتعدنا ذات فراق لم نُخطط له، رأيتك وحيدًا، تائهًا عن كلّ شيء إلا ذاتك، أصبحت أنيسي، بوصلة ذاتي، أحدّثك، كأنّي أحدّث هذا البوح الذي ينسجني فيك، كنت صغيرًا، تُوفي أبواك، كانت أمي تهتم بك، أرضعتك لفترة زمنية، بعدها أخذتك امرأة من أقربائك كانت تعيش وحيدة، قامت بتربيتك إلى أن كبرت، ثمّ غادرتك إلى العالم الآخر بسبب وعكة صحية، حينها رجعت وحيدًا، تعتمد على نفسك في طلب لقمة العيش إلى أن التقينا، وبعد الحادث، فقدت الذّاكرة أنت، كان إعجابي بك كثيرًا، تعشق القراءة، ولديك يراع مُفعم، هل تتوقع أنّي لا أكون معك، عندما تكتب؟ لقد قرأت كلّ كتاباتك التي تكتبها لتعيش لحظة الكتابة كمُتنفس اخترعته لذاتك يجعلك دائم الصّمت والتّأمل.

يُتابع فادي: رافقتك طيفًا كلّ هذا الوقت لأشمَّ المُلهم في خلجات ذاتك، أشارك حياتك، وها قد رجعت إلى حُضن أمي التي أرضعتني وأرضعتك لتُسكب حنانها على رأسيّ، كلّما مسحت على رأسك، لتُعدّ الطّعام لي، لتُطعمني، كلّما أطعمتك، وتمنحك فنجان قهوتها، التي تقُوم بتحضيرها لي، لأكتب، لتكتب أنت على أنفاس قهوتها.

ها، والآن قد عرفت السّر، كلي رجاء، يا أنت، الذي يُشبهني، كمرآة أمي، لا تُخبر بهذا السرّ أحدًا، حتى أمي، يا أنت، لتمنح أمي، تلك الذّكريات الجميلة، التي تُذكرها بي، كن معها، كن إلى جانبها، لتبدأ حياتك مُجددّا، سأصغي إلى بوح يراعك، إنني أنتظر هذا البوح الذي يُشبهني، لتكن أنت أحلامي وأمنياتي التي لم أستطع تحقيقها في دُنياكم، ما لي أراك تُحدّق في صمت التًائهين، قُم، قُم انظر إلى الغيمات الزّرقاء، قف على قدميك، شُدّ من رغبتك في الحياة، أمي، أمي تنتظرك، لتذهب، وقبّل جبينها واهمس في أذنيها بأنّك تُحبها وستبقى معها وأنَّ فادي لم يرحل؛ لتلمس ذاتي فيك لأنّي أراني أنت. رفع يديه، وأمسك بذراعيه، وأشار إلى أمه، ثم ودّعه بقُبلة لم يهدأ وميضها في ذاته كأنَّها الحياة!



error: المحتوي محمي