نعم أعود مرة أخرى، ومن قبيل الإضافة لا التكرار، فأتناول موضوع «الحشرية» بدافع الفضول. قد يرى عازفو نشيد «القضايا الكبرى» هذا الموضوع ثانويا، أما أنا فلا أراه كذلك.
وأما «الفضول الذي قتل القطة» فإنه في مجتمعاتنا لا يقتلها، بل يسليها ويملأ وقت فراغها، لكنه يزعج المحيطين بها. أقول ذلك، وأشفق في الوقت نفسه على تلك القطط فألتمس لها العذر؛ لأنها قد تهلك اختناقا إذا لم تجد لها متنفسا في القيل والقال.
نعم، هنالك قطط «بشرية» يكاد أن يقتلها الضجر، لذلك تدس أنوفها في خصوصيات الآخرين. فلا تتفاجأ حين تجد من يطرح أسئلة كهذه: لماذا لم يُعمر فلان بيتا جديدا؟ ولماذا لا يسافر مع عائلته كل عام؟ ولماذا لم يسجل أبناءه في مدارس خاصة؟ وأين يخبئ فلوسه؟ ومتى سيتزوج ابنهم الأكبر؟ وليلة أمس رأينا سيارات عند بيتكم هل كان عندكم ضيوف؟ أما عن القصص المفبركة التي لا وجود لها إلا في خيال رواتها فحدث ولا حرج.
ومن المضحك حقا أن البعيد الذي لا يعرف عنك إلا القليل يستطيع أن يقول عنك الكثير. ولديه فائض من المعلومات لا تعرفها أنت عن نفسك. حالة يتطلب الحديث عنها بلاغة الجاحظ وظُرف مارك توين!
ربما تحاول أن تكون مهذبا فترد على ذلك الفضول بعبارات فضفاضة مبهمة، لكنك ترغب في قرارة نفسك أن يكون «الحشري» خارج حياتك!
يتساءل لويس كارول مؤلف «أليس في بلاد العجائب» ساخرا: «لماذا كلما ضاق عقل بعضهم اتسع فمه؟». إنه الفراغ يا سيد كارول، والفراغ شيء لا يوصف، لكنه يمكن أن يضاف إلى بقية العجائب التي تخيلتها.
أما الكاتبة سونيا باركر فتقترح على هؤلاء قائلة: «لو قللتم الاهتمام بحياة الآخرين قليلا، لوجدتم الوقت الكافي لإصلاح شؤونكم».
وبخلاف هذا الفضول السلبي، يوجد فضول خلاق مبدع كفضول الفيلسوف والعالم والباحث الأنثروبولوجي والكاتب والصحافي وطالب العلم، وهو الذي عناه أناتول فرانس بقوله: «إن فن التعليم هو فن إيقاظ الفضول الطبيعي في عقول الناشئة». وهو الفضول الذي يغرينا بالمغامرة، ويقودنا إلى فضاءات جديدة، ويحفزنا على طرح الأسئلة بدلا من الاكتفاء بما لدينا من أجوبة جاهزة. وبسببه تحققت تلك القفزات العلمية والتقنية الهائلة. وباختصار فإن الحضارة الإنسانية مدينة لذلك الفضول بكثير من إنجازاتها.
أخيرا، يعطي الشاعر صلاح عبدالصبور لتلك «الحشرية» بعدا آخر مختلفا عما سبق طرحه في هذا المقال فيقول: «قلتم لي: لا تدسُس أنفك فيما يعني جارك/ لكني أسألكم أن تعطوني أنفي/ وجهي في مرآتي مجدوع الأنف»!