أمي من فريق الأطرش «18»

بعمر العشر سنوات قطعت أشواطًا من الديرة إلى فريق الأطرش ذهابًا وإيابًا، والمسافة بين المكانين كيلو ونصف الكيلو، لا أبالي قصر الدرب أم طال، فعلى جناح اللهفة أنطلق كالريح شمالًا، قلبي مأخوذ إلى أحضان أمي العودة، رؤيتها تبهجني، تفرحني، تحتويني بقلبها الكبير، تطعمي حنانًا ورقة ودلالًا، ولحظات السعد تتجلى معها بتجوال في ربوع المعامير التي يقوم عليها زوجها محمد حسين سالم بعمارها، بصحبة خالتي زهرة ابنته الوحيدة من جدتي، وأيضًا ترافقنا ابنة خالتي زينب إبراهيم الصفار، فكنا نخاطبه تقديرًا واحترامًا، “عمي أبوجاسم”، الذي يعتبر كل أولاد وأحفاد أمي العودة بمثابة أولاده.

تنادي علينا جدتي فنتبعها سمعًا وطاعة كأننا فراخ مبهورين بالخضار وشموخ الأشجار، تخبرنا عن مواعيد قطف الثمار، ومتى تنضج خيرات عذوق هذه النخلة قبل الأخرى، وأسماء الرطب وأنواعه، تتحسس بأناملها تينة حان قطاقها، تبللها بالماء الجاري من “السمط” بملء كفوفها تضع في “ملفعها” بعضًا من الرمان، وتقول لنا جربوا هذه وتلك، تأخذ رأينا أيهما أحلى التين أم الرمان أم الرطب أو البوبي، كل يجيبها حسب لحظة استمتاعه، بينما لساني يتمطق بحيرة الحلاوة العذبة، أحيانا لا أفرق حينما يتعاقب الثمر أكلا على بعضه وبالأخص إذا حضر الموز، طعم السكر يجعلني في نشوة و”دوبامين السعادة” يرتفع من رأسي حتى أخمص قدمي، أحلق كطائر حر مع ترقرق كلام أمي الهادئ ونفسيتها الوثابة للحياة وابتسامتها الشفيفة، برغم عاديات الزمن التي نالت منها الكثير، نتحسس دفئها فقلبها كبير ممتلئ عطفًا وحنانًا يحتوي مزاجية الكبير والصغير.

جدتي تحب أحفادها كثيرًا وللذكور منزلة كبيرة عندها، فأنا وابن خالتي علي إبراهيم الصفار، قبل البنات ميلادًا، نلنا حظوة ونصيبًا وافرًا من حبها بين الأحفاد.

بهذه الأجواء الخلابة كنت مسحورًا بفضاء فريق الأطرش، فأغلب صباحات العطل الصيفية وحتى مساءات أيام الدراسة، ومن غير استئذان أو إشعار أمي الصغيرة، أحط رحلي شمالًا تقودني رجلاي من حيث لا أشعر، وكم مرة أتت والدتي مع أبي ليلًا ليأخذاني من بيت جدتي عنوة، ونفس الحال تكرر مع أخي عبدالحي الذي يصغرني بستة أعوام، نقلت له عدوة محبة الشمال الآسر بجنائن على مد البصر إلى “ملفى الجدة” بكل ما فيه من متع متجددة.

مرات عبرت الدرب وعيني مثل كاميرا تلتقط مشهدًا تلو المشهد، رأيت رجالًا يسارعون الخطى ذهابًا وإيابًا، وفي أيديهم ربطة “عقب” يتدلي منها سمك طازج تفوح رائحته من بعد، وآخرين على هاماتهم مخارف رطب، ورجل من عائلة العقيلي يسحب ثورًا بواسطة حبل من رقبته، ويدخله زريبة للبقر ولحظات وتسمع هيجان الذكورة. وعند كل منعطف “عانة ماء” تتكوم في أحضانها نسوة يغسلن الأواني والملابس، يخرجن ويدخلن بين فيافي النخيل.

كم هي المرات حينما أكون عائدًا من فريق الأطرش ممتلئًا طاقة وحيوية وعنفوانًا وبهجة، إلا مرة واحدة او اثنتين رجعت وكان الخطو ثقيلًا، والهواء خانقًا، والصدر مقبوضًا، ويا أشواط الحزن كيف لي أن أسرد أوجاع ذاك الأنين.

مسرورًا أمرتني أمي مريم ذات يوم أن أشتري من دكان الخباز حجي عيسى القطري أربعة أقراص “خبز مريم”، بمناسبة إحياء وفاة السيدة مريم عليها السلام، وأوصلها إلى بيت أمي العودة، إنها توصية فخر ويوم المنى أن أقدم شيئًا لجدتي، انطلقت ووجدت محل القطري مغلقًا، فذهبت فورًا إلى دكان الخباز أبوحسين قيس، اشتريت منه خبزًا ساخنًا بني اللون صغير الحجم، مزين بالحفر والسمسم -خبز أسمر معجون بالدبس-، يداي قابضة على الخبز ورجلاي تهرولان سريعًا، خرجت من فضاء سوق تاروت طائرًا من الفرح عابرًا المانعية والدشة، درب ضيق تحفه مزارع النخيل ذات اليمين وذات الشمال، أمر على النجيمة والفمين ومغيصة وأرض البيت وقطعة البحراني ولتوين ولحبيبين وبرية الخضر، والمفضلي والخارجية، والخطيب والتناكيب، مزارع مسورة بـ”حضار” من خوص، ومزينة بأشجار اللوز والبمبر والكنار.

حين وصلت فريق الأطرش دخلت بيت جدتي حيث الباب مشرع على مصراعيه، لا يغلق بتاتًا، لأن ردفة خشبية واحدة هي الباقية تستند على عمود طيني، أما الثانية تآكلت بفعل حريق نشب منذ سنوات، بيت جدتي مفتوح على الدوام، مثل غالبية بيوتات الجيران المصنوعة من جريد النخيل، قليل منها ما يقفل أثناء الليل بكيف بالنهار، أمن وأمان لمنطقة قبل نهاية السبعينات الميلادية شبه نائية.

سعادة غامرة تتملكني لتقديم الخبز لجدتي، وقفت وسط الحوش، وناديت (أماه عودة) لم ترد كعادتها وكررت النداء ثانية وثالثة ورابعة ولا من مجيب، ظننت أنها لم تكن موجودة، لكني حين دخلت دارها وجدتها جالسة القرفصاء وهي في حالة نحيب! تبكي وتقلب ثياب خالي علي المفقود منذ سنة 1967، حين أبصرتني كفكفت دموعها وهي تحضن ثوبه “دراعته”، أنينها بدل مشاعري رأسًا على عقب، تركت الخبز جانبًا، وأنا معقود اللسان، متجمد الأطراف، وعبر كلامها الموجع استرجع ملامح خالي الغائب عنا، وهو جالس على حماره، يناديني في يوم ضحى: تعال ولد أختي، سحبني من الأرض وصعد بي على ظهر حماره، عند أطراف المانعية ما بين عمارة الصديق ودكان غنام الخباز، سرور كبير انتابني وكأني ممتطي صهوة فرس، أنظر للعابرين بابتسامة بطولية، لكز بقدمه اليمنى بطن الحمار انطلقنا بعد ذلك إلى أين، غاب عن بالي بقية المشهد.

لا أدري ما سر تجدد بكاء أمي العودة بعد مرور خمس سنوات على اختفاء خالي، ربما ذكرى يوم ضياعه، طوت ثوبه ووضعتها داخل سلة كبيرة مصنوعة من الأسل، تارة تتنهد وأخرى تخاطب خياله: “وين غبت عني يا علي يا نور العين، ما أدري أنت حي لو ميت، لو أنت ميت عندي أهون على روحي، إنچان أقدر أزورك وأقول للناس هذا قبر ولدي “علي” مات شباب، ومثلك شبان راحوا، وظلت قبورهم معروفة يقرأ عليها أهلهم والمؤمنون، لكن ما أدري وين مكانك، ويا أرض ضمتك عني، آه على شبابك يا ولدي، ربيتك وسهرت الليالي ويوم نويت أعرسك رحت عني بسكتة، “ناشدتها خالتي زليخة بأن تكف عن الأنين” أماه قومي اذكري الله وتواصي بالصبر وبأهل البيت كل المصايب هونت إلا مصيبة حسين، إذا الله رايد يرجع إلينا بيرجع يا أماه”.

ضياع خالي لغز محير، لواقعة غريبة، حدثت حين لبس خالي ثيابًا نظيفة ذاهبًا ليلًا برفقة خيلانه لحضور فرح في منطقة الخارجية، عرس حسن على بن عيسى السنونة، والمنطقة تقع جنوب فريق الأطرش بمسافة تقدر بـ400 متر تقريبًا، بعد أن تناول خالي العشاء شعر بالنعاس ولم يستطع أن يواصل السهر والجلوس لزفة المعرس، قال لأحد خيلانه “يالخال أنا تعبان باروح بانام”، ترك الفرح متوجًا إلى البيت، وفي ظلمة الليل سار وحيدًا بين درب ضيق ومتعرج وكثافة النخيل، بعد انقضاء العرس بساعة أحست الأم بالوحشة وهي تخاطب نفسها “للحين ما جاء ولدي” سألت أخوتها وين علي وين علي؟ اللاجواب، تاه بين اللوم والعتاب وجر الآهات، أنفاس مخنوقة في سواد الليل.

استنفر شبان الفريق حاملين “لتريكات والفوانيس” يدخلون من بيت لبيت ومن نخل لآخر، مفتشين العرايش و”برك العيون” حتى مطلع الفجر، نادى المنادي بعد نداء الله أكبر بصيحات “ما أحد شاف الشاب علي هبوب”، صدى تردد في كل مكان، واستمر البحث شهورًا عديدة، جاب الأهل والخلان وأصحاب الفزعات كل الدروب وكل الأمكنة، فتشوا المعامير نخلا نخلا والبحر حضرة حضرة، وكل شواطئ الجزيرة.

اليأس والرجاء والأمل حبائل معلقة على جدائل النخيل. تقف أمي العودة مع زوجها محمد حسين سالم في الطريق المؤدي للبحر شمالًا، تسأل في كل مرة البحارة العائدين ما شفتوا ولدي علي؟، بح صوتها ونحل جسمها من طول الانتظار.

ابن التسعة عشر ربيعًا اختفى في ليلة ظلماء ولم يجد له أي أثر، ظلت آثار الحزن بادية على وجه جدتي حتى في أيام الفرح، كل فرح تعتبره “نغصًا” بكت غيابه مرارًا وتكرارًا، حزن سكن قلبها أكثر من رحيل زوجها الأول جدي حجي محمد هبوب.

جدتي برغم الآلام كانت قوية البأس، اكتسبت الشجاعة والثبات على الملمات من أبيها حجي مهدي آل زرع الذي أرعب ذات ليلة البداة وجعلهم يرتعدون ويردون على أعقابهم بعد أن أشعل نارًا في دائرة كبيرة من سعف النخيل ووقف في وسطها متحديًا من يدنو منه فالنار هي مأواه، قطاع طرق البر فروا هاربين ولم يعاودوا البتة لنهب مزارع الكادحين، تلك قصة حدثت قبل أكثر من 100 عام.

مع مرور الأيام سلمت جدتي ليلى بضياع خالي علي، واعتبرته شبه مفقود، لكن الأمل ظل متوقدًا في دواخلها، وعرس ابنها الثاني خالي حسين سنة 1972، الذي زوجته وعمره 16 عامًا بطلب منها، فرحت به أيما فرح لم ينسها حالة ضياع ابنها الأكبر، تضحك وتبكي في ليلة العرس.

وبين مشهدين وزمنين مختلفين وبعد مرور 18 عامًا على الواقعة المحيرة، دنا الفرح عام 1983، حيث كنت أقود سيارتي ببطء على طريق الشمال المتعرج المليء بالمطبات والحفر، شارع ترابي تحفه النخيل من الجهتين، يؤدي إلى منطقة الجبال حيث مزارع الطماطم والبطيخ، حين تجاوزت المساحة الخضراء وصلت على مقربة من شاطئ الزور غربًا حيث التلال تشرف على البحر، أطفأت محرك سيارتي إلا من أنغام تصدح في الفضاء مع أصوات النوارس، رحت أرقب الموج، رأيت خالي مرتسمًا في الأفق قادمًا من أعماق البحر يخاطب والدته بمقامات شجية: “الأيام عساه بخير يايمه، أسألش وأنا عنش وين يايماه،عسى تتلاقى بحوري مع ابحورش ويرقص فيها الگهر نهام، شقى أيام ويدورش، تدور أيام وأقول اليوم بترجع لي أغاني بحور في ليل أنت قلتيها، حرام الغربة يايماه تفرقنا، عساها غربة الأغراب، الأغراب في ديرتنا. راحت ليالي الگيض راحت ليالي الگيض، والقمر طل من السما دمعة على خده. عسى في الغربة يايماه ما سليتيني، عسى في الذكرى يايماه ما نسيتيني، عسى ما تغير لسنين وقلبش منه شلتيني، يايمه وآه يايماه نطرت سنين تناديني نطرت سنين يايماه، أشوف الدنيا في عيونش تناديني، لاجل تتلاقى إيديها مع إيديني. أدوس الشوق وتدمي ارجولي يايماه، عسى نلقى جذم الباب يحميني، لأن في قلبي يايماه حزاوي بحور محفوظة، لأن في قلبي يايماه القهر نهام يناديني وأنا أشوفه. نقشت اسمش على قلبي وعيني ما نست رسمش، تلاقى قلبي وصال ابحور، صرخت ابآه أنا منش، كتبت بخط يشع بنور أسماء ورود على اسمش. أنا مشتاق يايماه لأحضانش تضميني، أعطيني اليوم إيدش يايماه ودرب اليوم وديني. وطلي من السماء نجمه نزلي معاش وخذيني، وديني ويا القمر وياش ولا تفكري تخليني، تقولين يايماه عسى يرجع ضوه الأيام، أقول في قليبي يايماه أمل يزرع مع الأيام مع الأيام والسرور يايماه. للأمل يمه بغني وأصرخ بصوتي وأقول اسمعيني، يمه خلي الناس كلهم يسمعوني حفظهم ربي عساهم ما نسوني. غني يا طير البشاير سامعك يطرب وهو في ديرة بعيدة، لاجل كل الناس والأحباب غني بفرح بقلبي هواهم لو تعيده. منزل الفرحة تراني عازم كل الأهل، للأمل يمه بغني وأصرخ بصوتي وأقول اسمعيني، يمه خلي الناس كلهم يسمعوني حفظهم ربي عساهم ما نسوني”.

كان ذلك حلم يقظة عبر أغنية محمد يوسف الجميري ردتتها عبر مسجل سيارتي وأنا أسبح بدموعي وحيدًا، كنت أمني النفس برجوع خالي واقعًا من خيال، كلما سمعت أنغام وكلمات أغنية “غربة الابن عن أمه”، أجهش بالبكاء كنحيب الباكيات في العزايا، لوعة وغياب على عزيز ضاع ولم يعثر عليه على أي أثر لحد الآن.

من أدراك يا قارئ البخت وأنت تقرأ وجه طفلة لاهية بين الزرع، لتخبرها عما سيحدث لضناها غدًا. تجر الآهات جدتي وتقول: هذا الحجي نجم لي بنجم من يوم أني جاهلة وجت سطر المسطرة، لا إله إلا الله، اللي نجم لي حجي علي أبو نجم بن حبيب، الأول صاحب ويا أبوي أخو ملزم، ومن يجي البيت، يقول لي: “قومي يا ليلى ولطمي الخد، وانشري على ابنش العلم لاسود وشوفي الولد من طلع مارد”، چلمته ما خبت ولا بقت، هذا يوم أني جاهلة نجم لي بها النجم، هو عاد يشعرها على ليلى أم علي الأكبر، ومن كثر ما قالها، هذه صارت لي سطر المسطرة”.

جدتي ليلى طوال السنين تكرر ذلك المشهد وتستعيد فراسة ذاك المنجم كيف قرأ بختها وهي لم تتجاوز العشر سنوات.

تقاسيم الحزن خبأته جدتي عن العيون، لكن عيونها تفيض دمعًا يوم مصيبة علي الأكبر، تزفر وجعًا وتتنفس بكاء وتنغمس شجنًا، وتسافر بين مصيبتين، تمسح وجناتها المبللة تفجعًا، تسترد أنفاسًا فيرتاح قلبها المتعب من ضيم الأيام، طيف ضناها الغائب لم يفارق عينيها يومًا، كانت ترتجي أن يعود إليها قبل أن تفارق الدنيا، وتدعو الله أن يرجعه إليها سالمًا ترفع يديها عند كل صلاة وتدعو أيضًا بعودة كل غائب لأهله.

يا مواويل الحزن أرخي الصوت فالمفجوعين بضياع أقاربهم كثر، أنفس تاهت في ظلمة البحور وأخرى طمت عليهم أرضهم ولم يعثر لهم على أي أثر، الذاكرة المتواترة حافلة بأسماء المفقودين عبر أزمنة مختلفة، رأفة بالمشاعر آثر اليراع عدم ذكر أحد.

سلام على أرواح الغائبين أحياء كانوا أم أموات.


الشاب  علي محمد آل هبوب الغائب عن أهله منذ عام 1967 م

صورة من جواز السفر



error: المحتوي محمي