العمل الناجح ومحاصصة نسب نجاحه.. حدث وحديث (17)

كثيرًا مَا يشير الناس المَبهورون بنتائج النجاح، لأَول وَهلة، إِلى حَصره ونِسبته إلى شخصٍ واحد، يَرونه فارسًا هُمَامًا، قد حَقق ونال قّصب السَّبق؛ أو بَطلًا أُسطوريًا، يَسعون إِلى تدوين اسمه عالميًا، في رِقاع صَفحات مَوسوعة “جينيس”… غير أَن واقع الأَمر يُشير إلى أَنَّ هُناك عَددًا مِن العوامل المُشتركة، والتسهيلات المُهيأَة، والإعدادات المُسبقة، والجُهود المُتظافرة لفريق عَمل مُتميز، تحظى مُجتمِعة مُتكاتِفة، بأَرصِدةٍ جَوهريةٍ، مِن نِسب ورُتب النجاح الفاعلة، والمُساهِمة طَرديًا، في صُنع ونَيل بهجة النجاح المُحققة… ومِن رصيد خبراتي وتجاربي الميدانية المُتواضعة، كمُشرف على وَرشة إِصلاح وصِيانة السيارات، طِوال عَقد مِن الزمن، أَنَّ بعض الزبائن- يحفظهم الله- يتكلفون كَثيرًا بالبحث عن مِيكانيكي مَاهر، يُحقق لهم نِسبة نجاح عَالية في تَوضِيب مَكائن سَياراتهم؛ ليتناقلوا لاحِقًا: إِنِّ فرحة النجاح الميكانيكي المُبهر قد أحرزتها خبرة وأَنامل ذلك الميكانيكي العبقري المُبدع، قلبًا وقالبًا… غير أَنِّ حَقيقة بِساط الواقع الفني لنجاح ذَاك العمل المُنجَز، لا بُد أَن يُصاغ بدقةٍ وضَبطٍ، بإعطاء كل ذِي حَقٍ حَقه، مِن أَرصدة النسب التي سَاهمت ودَعمت عمليْا وإِجرائيًا في رَسم بهجة النجاح المُعاشة، واستحقت توزيع ومُحاصصة نِسبها المُقننة المُستتِرة، بكَفاء وجَدارة- دُون زِيادةٍ أَو نُقصانٍ- في أَبعادها الثلاثية الميدانية المُجرَّبة، في نجاح توضيب مَاكينة السيارة، وهي: مَهارة وعَراقة المخرطة؛ وجُودة قطع الغيار المُختارة، وخِبرة الميكانيكي المُحترف، القائم على إِنجاح عملية التوضيب… وكلٌ له نسبته التي لا يُمكن تجاهلها، أَوإِنكارها في مُحصلة النجاح النهائي المُحقق…!

ولست هُنا أَحتكِر بترصُّدٍ وترقُّبٍ، أَبعاد تلك المرئية الثلاثية الميدانية للنجاح المُبهِج؛ وأُطبق، بإِسراف وإِسفاف، نسبها البنائية المُساهمة في مُختلف مَواقف الحياة… فلكل مَوقف حِكاية، ومَوضع رِواية، تَنسج بأَهميتها، ومَكانها، وزمَانها نِسب النجاح المُستحقة، لمُحصلة قِصة النجاح؛ وعلى سَبيل المِثال، فِكرة المُحاولة الشخصية للفدائي الأَشوس عباس بن فرناس للطيران… وإِنْ لم تكن ناجحة، عِلميًا واجتماعيًا، فيستحق عليها أَعلى نسبة استثنائية كاملة، غير مَنقوصَة؛ لجُرأته الخطِرة… وقد جاد بنفسه، وقادَها إِلى حَتفها؛ والجودُ بالنفس أَقصى غاية الجودِ!

هذا، ولم يَكن ابن فرناس وَحدَه حَاذقًا مُجاهدًا في سُدة فَساحة الميدان العلمي؛ بل سَبقوه صُفوف طويلة مِن العلماء، والباحثين؛ و لَحقوه طوابير مِن المخترعين، الذين سَجلوا بشهامَتهم الفكرية، وتضحياتِهم الجِهادية، ما يُسعد البشرية جَمعاء… وقد سَجلهم التاريخ في-زهوًا واحتفاءً- في مُتسع صفحات مُشرقة، مِن العطاء الذاتي المُغدِق!

وفي استراحة زاوية هَادئة، في واسع بَهو المجمع التجاري، تتوارَد وتتزاحَم إِلى ناصية ذِهني قائمة حُبلى مِن عّمالقة عُظماء المُخترعين العَباقرة، يَتصدرهم قاطبة، المُخترع المُبدع، والشهم الملهَم: توماس أَديسون… ذلك الطفل الذي عَانى مَا عَاناه في طفولتة المُبكرة والمُتأَخرة الكادحتين، مِن إِعمال الفكر، وطُول الصبر، فلم يَنثنِي لمُرديات الكسل؛ أَو يَستكِين لهَواجِس الملل… بل آَمعَن وأَنعَم أَسمى وأَنمى مَلكات عَقلة البِكر المُتيقظة، في أَطراف البيئة مِن حَوله، مُتأَملًا، ومُتدبرًا، ومُستشرفًا آفاق المستقبل، وقد آثر بفطرته الوادِعة، بُزوغ النور الساطع، على اكتساح عَتَمة الظلام الدامس؛ فاستثمر واستمر في قَدح زِناد عُصارة عَقله مِرارًا، رَغم ضَراوة مَوجة الفشل المُثبِّطة المُتكرِّرة، راغبًا تائقًا إِلى ابتكار اشتعال مِصباح نوعي، يِبدِد عَتمة الظلام… إِلى أَنْ نَجح أَخيرًا، بَعد صَبر وتَجلُّد، في اختراع مِصباحه الكهربائي المُبسط، الذي أنار لاحقًا، بضوئه المُتلألئ العالم أجمع!

وأَعودُ، والعود أحمدُ، مُشيدًا مُذكِّرًا بالنسب والأَسباب والمُسببات التي هَيأت وسَاهمت في إِيقاظ، وتَوقد، وصَقل صَحوة مَلكات النبوغ الملحوظة لأَديسون: أَولها، احتضان أُمه له، بعد أَن طُرِد مِن المدرسة، في سِنٍ مُبكرةٍ، بسبب كَثرة أَسئلته المُتكررة والمُتلاحقة؛ ولحُسن الحظ، كانت أُمه مُعلمة. وثانيها، تشجيع والده، الذي كان يشتري له الكتب العلمية، بين الفينة والأُخرى؛ وعِند قراءته لكل كتاب، يُكَافَأ بفلس واحد. وثالثها، تلقيه الدعم اللامَحدود مِن قِبل، رِعاية وعِناية، والديه الواعيين؛ وتشجيعهما له على إِنشاء مُختبر صَغير بالمنزل، مُنذ نُعومة أَظفاره؛ للاستمرار في مُتابعَة ومُلاحقَة نَتائج ومُخرجات تجاربه العلمية…!

ولعِلمي هنا، أَطرَب في لَذة الاستمتاع بقراءة، واستعراض، وتأَمل جانب حَيوي مَاتع مِن قصة سِيرة ومَسيرة أديسون- الطفل العبقري- أَستشف، بتفكُّر وتبصُّر، أَنَّ الفشل المُتطفِّل الراهن، مَا هو إِلَّا عُملة صغيرة سَالكة، يُمثله مَرة، حَفنة فِلسات زَهيدة جَمعها ذلك الطفل، في جَوف حَصَّالته، أَمام هَبَّات نَسائم القَدَر المُقدَّر، ونَفحات السعي المُؤزر، مُسداة ومُهداة أَصالة، بسخاء، مِن جَوف نفائس أسفاط الهداية الربانية السابغة المَانحة العامة لبني البشر قاطبة…ا
ولله دَرُ الشاعر المُتنبي في زَخم أَنفاس قصيدته العَصماء… (على قَدر أَهل العَزم تأتي العَزائمُ… وتأتي على قدر الكرام المَكارمُ).



error: المحتوي محمي