الغُموض ديدنها، تُسافر ناحية البعيد، تأملاتها بنفسجية العينين، تقتنص الفكرة الحلوب، كعادتها لا تُخبره بألمها، توجسها، كلّ المسؤولية، التي وجدت نفسها عنوة في مُعتركها، تُرهقها، تسعى دائمًا إلى تغذية ذاتها بالصّبر الجميل، لتستطيع تلبية احتياجات أسرتها، تعيش قلقًا، يُصنفه علماء النّفس بـ”قلق الحالة”، لينتابها في كلّ مُهمة، أو مُشكلة، تُداهمها.. .
مُنذ أن تزوجت، كانت الوحدة رفيقتها، تقضي وقت فراغها في أعمالها الفنية، تدخل إلى خلوتها الفنية، تُغدق بياض اللّوحة بما يختلج في ذاتها من أفكار، وتأملات تنسجها بصريًا، ثمَّة في كلّ ذات طيف، يُلامسها، ليس حُلمًا، يأتيها عبر استغراق النّوم..، لكنَّه الطَّيف، يجيء، كالحياة في تفاصيلها، فإنَّه تقذف بنا إلى تحديات في مُختلف الأصعدة، فكيف نتعايش معها؟ كيف نصل إلى مرحلة الاكتفاء الذّاتي؟كيف ننتصر على العواقب؟ والكيف بتشعبات ألوانه، الانحناءات في استقامتها، والأجزاء في تكاملها..، كيف نصل من خلال انبثاق الأسئلة إلى ما نهفو إليه؟
الأشهى في كيان المرأة، في رغبتها العارمة، لتُعبر عن وجودها، كطفلة، تُداعب قماطها، لتحتضن الحياة بشقاوتها البريئة، ومبسمها الغض، أن تسكن في ذاكرة الرّجل، أن تكون في رُوحه وفكره، أحلامه وأمنياته، أن يُرسل لها كلماته، ليُخبرها بأنّي أبحر في عينيك، الآن..، أن يستحضرها في آلامه وأحزانه، ليهمس في أذنيها، بأنّي أداوي جراحيّٓ من حنانك وعطفك، وظلّ رمشيك، الآن..، أن يفرح، ويُحلق بجناحيه في الشّفق الأحمر، ليُشير لها، بأنّي من شفتيك، نسجت قلبيّٓ لوحة بين أصابعك، لتكون ريشتك، تقتفي وجهي، الآن.. .
حنان المرأة، التي تُتقن الصمَّت، وتمتلك القدرة على الصّبر الجميل، في إغلاق نافذة البوح إلى شريك حياتها، الذي يعمل بعيدًا عن موطنه، ليتركها مع ابنه علي ذات الثّانية عشرة ربيعًا، وابنته ليلى، ذات السّابعة ربيعًا، التي تشبه ملامح أمها، ونُعومتها الدّافئة..، لتتحمل حنان المسؤولية في شُؤون المنزل، وكلّ ما تحتاجه الأسرة، والأكثر من ذلك، أن تتحمل فراقه، وهي العاشقة، التي لا تقوى على العيش بدون كلماته الحنونة، ومشاعره السّاحرة، ونظراته الأنيقة، واحتوائه لها، لتكون مُطمئنة وهادئة، وتُقبل على الحياة في سعادة عنفوان.. .
في السَّاعة العاشرة ليلًا، جلست في حجرتها، بعد الانتهاء من كلّ الالتزامات اليومية، اختلت بنفسها، اعتصر قلبها، فقد مرّ أكثر من ثلاثة شهور على زيارة الأخيرة، البيت مُوحش بدونه، كأنَّ لا روح فيه، برغم من جالية التَّنسيق، والاهتمام..، يظلّ الرّجل..، يُعطي للمكان حيويته، رائحته، نبضاته..، فكيف بها، وهي المُستلقية، الآن، وتبحث عنه في ذاكرتها.. .
لم تستطع النّوم، لفح ما يجعلها، تُحدّق مرارًا في السّقف، ترسم لوحة عبر شُقوقه، تُسيرها حيث أرادت..، شهقت فجأة، اغرورقت بالدّموع حدائق عينيها، تروي ما أججه الحُزن، لتغدو الزهرة ذابلة في داخلها.. .
في صباح يوم الغد، توجهت إلى عملها مُثقلة بالهُموم، بعد أن أوصلت علي وليلى إلى أمها..، في الممر، الذي يقُود إلى مكتبها، ألقت التحية على زميلاتها بوجه شاحب، يتصنع الابتسامة، لتُمارس إخفاء كلّ بُؤسها عن الآخرين بشكل دقيق جدًا..، وضعت بعض الزّهور الطبيعية في مكانها المُخصص، قامت بمُراجعة الأعمال، وطباعتها، لتُقدمها إلى رئيسة القسم، التي أخبرتها بضرورة إحضارها لها قبل ارتشاف قهوتها الصّباحية.. .
خرجت من مكتبها، وأعطت رئيسة القسم الأوراق، وأثناء رجُوعها إلى مكتبها، اشتاقت إلى زميلتها صبا، التي نُقلت إلى قسم آخر، فغيرت طريقها، لتتوجه إليها، فقد اشتاقت لها.. .
قرأت كلمات وجدتها مُعلقة على جدار مكتب صبا، التي عانقتها بشغف الاشتياق، ودعتها إلى الدُخول إلى مكتبها الجديد، في القسم، الذي نُقلت إليه مُؤخرًا، نظرًا لتميزها، استأذنتها صبا؛ لإحضار القهوة؛ لأنّٓها تعرف كم تعشق القهوة، وتترنم على رغوتها بين شفتيها، وتستجيب إلى نداءات رائحتها، وفور أن وطأت قدماها بهو المكتب المُنسق، أبصرته حديقة غناء، لتشعر بحسها الفني مُندهشة، فإنّٓ كلّ جُزء منه، لم يكن وضعه عبثًا أو إسرافًا، فائضًا عن الحاجة..، بعمق الانجذاب، تُحدّق بعمق في العبارة، تقرأ بصوت هامس، يُغريها، ليُغريك عند سماعه،كأنه ارتعاشة الصّباح: إنَّنا لا نسعى إلى النّٓجاح، ولكنَّ النَّجاح، يسعى إلينا.. . تقرأ حنان
تقدّمت صبا باتجاهها، وهي تُرحب بها، وتبعث ابتسامتها، كفراشة في المكان، تناولت حنان القهوة، تنفست بغرق، أغمضت عينيها بُرهة، قطعت صبا هذا الغرق، هذه التّجليات المُباغتة، التي تحتويها باستمرار، تدعوها إلى الجلوس.. .
للتو..، خرجت من مكتب صبا، أحسنت بأنّٓها غيرت من مزاجها، لطالما كانت صبا القلب،الذي تلجأ إليه، تُصغي لها، تستأنس بحديثها؛ بمُزاحها الشّفيف، الذي ينساب مع ضحكاتها الخفيفة الحضور، مما يجعل طبيعتها الجادة، ترفل ما بين النّٓهار واللّيل، وامتزاجهما، كوقت؛ لأنّٓها تُشبهها في أنثاها، التي تسكنها، التي تُشاغبها، التي تتعدى أن تُخفيها عن الآخرين، معها فقط، تظهر هذه الأنثى، تتجسد في قالب الكلمات.. .
وصلت إلى مكتبها، شعرت بأنَّها تُريد أن تكتب إليه، أن تبُثه وجعها، ولكن لم تكتب، لم تُرد أن تُزعجه، لتتجاسر على مشاعرها أكثر، مما جعل جسدها يضعف أكثر، فلا ترغب بتناول الطّعام إلا إذا اشتدّ بها الجوع، أيكون جسدها يحتاج إلى الطّعام، ليعيش حياته بلا مرض، أم رُوحها، التي تحتاج إلى الغذاء، ليجعلها تسمو وتتألق، تبتسم.. .
سقطت دُموعها على خديها..، آه.. إنَّ الفراق، يأتي لغتنا، التي لا نفقه معناها، تؤلمنا، وتصرعنا، وتسترجع الذّكريات..، الكثير من الذّكريات، تجعل القلب يتألم، وتظلّ عاجزًا كيف تُواجهها..، تتجمد اللّغة في شفتيك..، تأنّ حنان تبكي