أمي من فريق الأطرش (17)

بكل الحواس أمسك بالذاكرة مثل طفل يجري خلف أمه متشبثًا بردائها، وأينما خطت دربًا ينعطف البصر، وتضاء فوانيس الأمس.

ها أنا ذا أمشي مهرولًا على إيقاع حكايات أمي، تأخذني قربًا وبعدًا، صعودًا ونزولًا، وفجأة تلقيني على أرائك النوح، أرتقي سلالم الخيال سفرًا في الليالي المبهجات والمعتمة، أنين الأفئدة ترانيم عشق، ألتقط صور من مروا حفاة على عشب الحياة، والجالسات عند مآقي العيون، تتناثر القطوف الدانية في حضرة الفؤاد الباكي، أتفحص وجوهًا غابت عن الوجود منذ أزمان، تتشكل أمامي وكأنها لم تزل تعيش عصرها المعلق بالوجد والنحيب، أميل برأسي على وسائد الأيام، أغمض عيني، أغفو حالمًا بالأمكنة والسنين الخوالي.

تحدثني والدتي عن نخيل سكناهم، كيف ارتوت دمعًا بحب الحسين، فمنذ تفتق ذهنها سمعت جر الونات واللطم على الصدور، والدها وجدها وأخوالها أحضروا الخطباء عبر عادة أسبوعية، وتنافسوا في خدمة المستمعين. ليلة الأحد القراءة عند خيلانها حجي عبدالله وحجي حسن بن زرع، وليلة الأربعاء باسم والدها، ليلتان في مكان واحد، والمجلس مشترك بين الأهل، ضمن نزل العشيش في رحاب نخل خشكار.

يشار للقراءتين كل على حدة والخطيب مختلف، ليلة باسم مجلس آل زرع وليلة باسم مجلس آل هبوب، الأول ضارب في القدم، وتعود فكرة نشوئه بعد نزوح جد والدتي حجي مهدي بن زرع للعوامية ومكوثه فيها لمدة سنتين في منطقة المليح، حين رجع إلى شمال جزيرة تاروت أسس مجلسًا حسينيًا منذ نهاية الثلاثينات الميلادية من القرن المنصرم، وتبعه مجلس جدي محمد هبوب بعقد من الزمن، والمفارقة أن الأقدم هو الذي استمر لسنين عديدة بينما الثاني توقف بعد رحيل جدي.

وكلا المجلسين أصبحا الآن شيئًا من الماضي استقرئ تجوالًا لما دار حولهما من مشاهد ومواقف. مجلس آل زرع تنوع فيه الخطباء من المبتدئ إلى المخضرم، وشنف الأسماع الاسم اللامع الذي تواجد حضورًا على المنبر وهو الحاج ملا علي الطويل ذو الصوت الجهوري، وللدلالة على قوة صوته حين يؤذن لصلاة الصبح من سطح بيته الكائن وسط الديرة، يسمع في كل أرجاء المناطق ويصل إلى حدود فريق الأطرش، ساعده في ذلك ارتفاع منزله الشامخ على كل البيوت، والذي يتخذ من الخلوة العالية مناداة لدخول وقت الصلاة وكذا التنبيه لإمساكية شهر رمضان.

الفجر هو الهدوء يصل صوته بنداء “الله اكبر” و”أمسكوا يا عباد الله”، لكل سادر في نومه، إيقاظ من دون وسيط، لم تأت بعد مكبرات الصوت ولا ذكر للكهرباء إلا وصف مصابيح خطفت أبصار الأهالي الذين أدّوا مناسك الحج.

قريحة ملا عبدالله الحجاج تتلون أشجانًا بأشعار الحزن، يستنطق مقتل أبي عبدالله الحسين بجر الصوت والآهات، ترنيمات مؤثرة تهز القلوب. مع عصرية كل سبت يفد بكامل هندامه ووجهه المبتسم الوقور، لإحياء العادة الأسبوعية ليلًا، باسم مجلس خيلان أمي، يأتي فيحظى بالترحاب والتقدير، تحفه حفاوة الأهل البالغة لإنسان فيه من رائحة الحسين، وهو القادم مشيًا من الديرة بصحبة أطفاله الثلاثة عبدالحميد -أبوفتحي- وعبدالجليل -أبو عبدالله- وعبدالرحيم -أبو وصفي- ولحضور الصغار مكانة واحترام لا ينادى عليهم بأسمائهم بل ولد الملا الصغير أو الوسطي أو الكبير، الملا حجي عبدالله اسم على مسمى، فارع الطول وذو نفس طويل في جر الآهات الحسينية.

تتلصص أمي وبنات خالتها من فتحات سور الخوص ليروا هل صحيح الملا الطويل يخلع عينيه أثناء السجود ويضعهما جانبًا، لم يروا شيئًا من ذلك، إنما تخويف الأمهات لصغارهن لئلا يقتربن من مجلس الرجال، والذي رأوه قد نزع نظارته الطبية أثناء تأدية الصلاة والتي فصلها من سوق المنامة.

بعد أن يتناول الملا وجبة العشاء يتوافد المستمعون من مزارع النخيل بلباسهم التقليدي، فانيلة بيضاء نص كم ووزار هندي ملون، وعلى الرأس “گحفية” أو غترة ملفوفة مثل العمامة، يجلسون على سجيتهم ويبكون على مظلومية سيد الشهداء، يتنفسون الأجر ويلتمسون المثوبة، وبمحبة بالغة يقدمون للخطيب ما تجود به أيديهم من ثمرات الصيف، امتنانًا لإنسان رحل بهم عبر فواجع التاريخ وأخذهم سفرًا إلى كربلاء.

أن تستمع للقراءة الحسينية في الهواء الطلق فهذا لعمري جو مختلف تمامًا عن الأمكنة المغلقة حيث التصور يأخذ مداه، وحينما ينادي الخطيب وسط معمعة المصرع ويأتي عند اللحظة الفاصلة، “وكمن له لعين من وراء نخلة”، يشير بإصبعه إلى النخلة التي تتوسط المجلس وحينما يختم، “مات الحسين عطشانا” يشير إلى الخرير والمتدفق في جدول الماء، المار بين المستمعين، وحسبهم تأوهًا كيف لزرع ارتوى فيضًا وحفيد رسول الله مات عطشانا.

أصحاب مجلس آل زرع وآل هبوب يقسمون بأغلظ الأيمان بأن مجلسهم يحضره بني أمية عبر أفعالهم الخفية، مرات يوضع “غوري الحليب الكبير” على الموقد، وهو المخصص لسقاية المستمعة وفجأة يسقط أرضا من دون سبب وينساب كل ما فيه، وتكرر الفعل مع أباريق الشاي والأغرب اختفاء كرسي الخطيب من المجلس، يبحثون عنه في كل مكان ولا يجدون له أي أثر، في اليوم التالي قبل انبلاج الفجر يوضع مكانه بشكل مقلوب، كل أصابع الاتهام نحو جن بني أمية الذين يتوارثون نسل الكراهية والبغضاء والتشويش، قد يبدو الأمر مستغربًا وربما لا يصدق، لكن الأغرب من كل هذا؛ الأقلام التي شوهت التاريخ عمدًا من الأقدمين واللاحقين الذين عاثوا افتراء وتضليلًا، فئة من أدعياء العلم برغم كل الدلائل والمرويّات وتخمة المصادر عميت أبصارهم وقلبوا الحق باطلًا. ولكن شمس الحقيقة لن تغيب.

وعند المغيب فلاحون يتوجهون نحو القبلة بخشوع، تلهج ألسنتهم الرطبة بذكر الله وترتفع بالتسبيح والصلاة على النبي، تتجلى أفئدتهم وصلًا مع حب آل المصطفى وتردد ألسنتهم على وقع أصوات الخطباء في ربوع النخيل. مأتم خيلان والدتي تعاقب عليه العديد من الخطباء عبر 70 عامًا في خدمة الحسين، من أبرزهم ملا عبدالله الحجاج، وملا عبدالله المبشر، وملا عيسى بن عباس، وملا منصور القطري، وملا محمد مسيري، وملا عبدالرسول البصاره.

الملفت أن جد والدتي حجي بن مهدي آل زرع إذا لم يعجبه خطيب أتى بآخر، كان يبحث عن المؤثر الذي يجلب الونة ويسيل الدمعة. ومن قرائح هؤلاء الخطباء تحفظ أمي شيئًا من هذا وذاك، مما تلوه على المنابر، من قصص ومعجزات وتراتيل شعر شعبي عن الأئمة الأطهار، ورددت أمامي أبياتًا حوارية بين الحوراء زينب وأخيها الإمام الحسن، تفطر القلب على لسان ملا عبدالرسول البصاره: “گشرة علينا نزلة الكوفة يبوحسين، فالك عسى فال السلامه يا ضيا العين، گلها الحسن يختي السلامة للأبو منين، ما تنظرين السيف شگ غرة جبينه، ماظنتي من طبرته حامي الحمى يگوم، هذا الطبيب يگول سيف الرجس مسموم، مگزر أبونا حسبته يومًا بعد يوم، لونه تغير وانتحل ما تنظرينه، گالت يعگلي نطلب امن الله السلامه، عسى يقوم أبوحسين ويگوم أبوالحسنين ويتمم اصيامه، ونلبس الزينة ونعيد ولا نعيد يتامى، گلها يثكلى العيد لا تتذكرينه، يختي يزينب چان عيد اتعيد الشام، چان الخبر وصل يصير أبرك الأيام، واحنا بعد ليلة ويوم ونصبح أيتامًا، عند الفجر كهف الأرامل تفقدينه”. دمع سال على الخدود وآهات تتفجر حزنًا على حزن.

عند والدتي فيض من قصص شعرية عن أهل البيت وأهازيج تراثية متنوعة، التقطتها من فضاء المآتم والاستماع لمجتمع النسوة، والتقطت الكثير من موروثات الأقدمين على لسان والدتها، والتي بدورها أخذتهم من بنت عمتها الضريرة “كظوم اقديحية”، التي تعتبر حافظة لما دار في القراءات الحسينية، بمجرد خروجها من المأتم تعيد ما سمعته حرفيًا، وكأنها آلة تسجيل، وتستذكر ما سمعته وتردد مع الملايات قصائد النوح في كل مأتم، حاضرة البصيرة في سرد قصص وحكايات الأجداد، موهبة فذة عجيبة، عاشت في مجتمع بسيط، لم يلتفت للمواهب والقدرات، وعن هذه المرأة لو حظيت بتعليم نظامي لكان لها شأن عظيم.

ثمة أسماء نسائية صدحت أصواتهن في المآتم أخبرتني والدتي عنهن، مكتفيًا من جانبي بذكر القريبات من حيز بيت والدها، وفي نفس الوقت بيّنت لي أن منطقة الديرة تمور بالعديد منهن، أما أسماء الملايات اللاتي سمعتهن عند بواكير الصبا: حمودية أم سعيد بن سليم،
قمارية بنت علي، أم علي العلق، ورويعية بنت حجي محمد، أصواتهن تجلجلت حضورًا مؤثرًا في رحاب عزية بنت سليم، ومأتم بنت حجي عبدالنبي، وأم علي ترابه، وبنت انصيف.

وأوضحت لي جوانب القراءة في أيام محرم، بأنها مقتصرة فقط على العشرة المتعارف عليها، ولم يعرف المجتمع حينئذ بعشرة ثانية كما هو متبع اليوم والذي استحدثت فيه عشرة ثالثة ورابعة، حتى ليلة الدفنة نادرًا ما تقرأ سابقًا، مجتمع مشغول بالعمل وبالكد والكفاح اليومي في سبيل توفير لقمة العيش، لكنهم يتواجدون ضمن القراءات الأسبوعية التي تعد على أصابع اليد الواحدة، حاضرون قلبًا وعقلًا وجسدًا وروحًا لإحياء العشرة الأساسية وكذا وفيات المعصومين.

سرحت عبر كلام أمي حول مشاهد التصوير ” التشابيه” عند مشارف النخيل قبل نشوء منطقة فريق الأطرش وهو المكان المفتوح بين المعامير، أشبه بالبرية إلا من “ركايا الدواليب”. كان التمثيل يتجسد من يوم العباس والقاسم وعلي الأكبر ويوم عاشر والحادي عشر. يصطف الرجال على ظهور الحمير التي تغير لونها من الأبيض وأصبحت بنية اللون بفعل الحناء لتقترب من لون الخيول، يدار التمثيل بشكل متفق عليه مسبقًا وحوار يدور بين المعسكرين، كر وفر بالسيوف الحديدة التي شكلت طرقًا عند أبوعبد الحداد في سوق تاروت، وتنصب خيام وعند المقتل يخرج منها رجال بلباس النساء وهن ينتخيات، إشارة للهاشميات، ظنت “اعقيلية” الواقفة بجوار والدتي “هذا أهل البيت بعدهم حاضرين. ما ماتوا”.

تمثيل عند العصر والخلفية النخيل المنتصبة وكذا الساحة المفتوحة، تجسدان أجواء ما يتلى من السيرة، حماسة الممثلين صورت المشاهد واقعًا ملموسًا وكأن معركة كربلاء تدور رحاها للتو واللحظة.

توصف والدتي أن كل من كان متفرجًا من نساء ورجال يبكون وكل يتلوع فجيعة على مصائب أهل البيت. مسرح الفرجة أو المسرح المفتوح، تراث منسي سبق كل المسارح العربية، وصنّفه الباحثون بأن أول مسرح في الإسلام هي التمثيليات الحسينية التي انطلقت من بلاد فارس وتعاظم دورها في أرض السواد.

وعن قراءة مجلس والدها محمد هبوب فقد اقتصر على خطيب واحد لم يتغير أبدًا، وهو “ملا حجي سلمان العقيلي” من سكان منطقة الخارجية، وتقول عنه والدتي: “إنه إنسان قنوع تعطيه أقل القليل ما يقول شيئًا، حتى إذا ما عندنا أودام، تعطيه لبنة أو روبه يأكل ما يتكبر، نفسه طيبة وحسه حليو”، وهذا الخطيب يأنف من رؤية ملابس النساء معلقات على سور الخوص، يغمض عينيه وهو يقول: “عيب على الرجل أن يرى ملابس نساء غيره”، وحين يسترسل بونات ما بعد المصرع وبشهقة الأنفاس وهو يهدئ روع الحاضرين ويقول: “باقٍ بيتان يا جماعة ونختم المجلس”. أطياب وأطباع النائحين سكينة نفس وتعظيم أجر، تلوح في الأفق صورة جدي، الذي رفع يديه نحو السماء طالبًا من رب العزة والجلال أن يرزقه بولد، نذر كرره مع مطلع كل فجر، بأنه سوف يقرأ وفاة الإمام علي لمدة عشر سنوات، وبالفعل رزقه الله ولدًا بعد ثلاث بنات، وأسماه عليًا وقد أوفى بالنذر! تراءى له حلمًا قبل قدوم ابنه بليلتين، حلم بين النوم والانتباه كأن رجلًا يخاطبه عند “ركية” دولاب الأمير، يقول له: “بيجيك ولد وبتفرح به، لكن هالولد ما بيصير إلك” تيقظ لبرهة، ثم غط في النوم ثانية وعاوده نفس الرجل ونص الخطاب، فز مذهولًا، وغلبه النعاس ثالثًا وتكرر المشهد ذاته!

حلمًا أتاه ثلاثًا ولم تنبئه الأيام عما سيحدث له، ليشهد مع أهل بيته ذلك الحدث المجهول، فقد رحل جدي سنة 1954م وضمته المقبرة وهو ابن الخمسين، تاركًا ثلاث بنات وولدين أيتامًا تكفكف عليهم أمهم وتداريهم في حمى الرحمن، أسرة بكت وحشة الزمن وضيم الأيام تواصت بالصبر وتوسلت بآل البيت عليهم السلام.



error: المحتوي محمي