أمي من فريق الأطرش (16)

بدعوات مخلصة ويقين يسري كما الدم في الجسد تهب النفوس بطلب الشفاء كلما حل مرض وتمادى قرح. عقيدة راسخة عند المؤمنين، حول تأخير الموت، ودفع نوائب الزمان.

تقص والدتي حكايات رمزية آتية من قرائح الشعب، موروث شفاهي غير مدون، معجون بتجارب الأيام وخبرات السنين، وفي حضرة حكايا الأولين يحلو السماع بإيقاعات الشجن.

الحكاية الأولى: ذهب رجل لأحد الحكماء العرفانيين، وقال له: أطلب منك يا مولانا حاجة قد تبدو غريبة.
* وما حاجتك؟
– أريدك أن تعلمني منطق القطط.

بعد لحظات صمت وتفرس في وجه السائل، أجاب الشيخ:
* أظن لو علمتك لن تستطع تحمل ما يتفوهون به، فأمرهم عجيب، وعندهم حدس مستقبلي، لأن بعضهم من العالم الآخر!
– كلي شوق للتعلم وتحمل تبعات أي شيء.

بعد أخذ ورد خضع الرجل لأبجديات التعلم، وبعد مدة وجيزة عرف لغة القطط، وذهب إلى أهله ولم يبلغ أحدًا بأمره، راح يكثر الجلوس عند عتبة باب منزله، لرصد مكان تواجد القطط مسترقًا السمع. اقتربت منه قطتان وهو يراقبهما في صمت، وبدأ سيناريو المواء، قالت واحدة لأختها: إني جائعة، والزبالة طوال اليوم لا يوجد بها فضلات طعام. فردت عليها: صبرك يا أختي الرجل الذي أمامنا عنده ديك غدًا سوف يموت، ومصيره مكب النفايات وسوف يكون من نصيبنا. تحسب الرجل من نوايا القطط العدوانية، وعند الصباح باع الديك في السوق.

ظلت القطتان تفتشان بين الأوساخ لعلهما تجدان شيئًا، لكنهما رجعتا بخفي حنين، دار عتاب بين القطتين، قالت المتفرسة: لا بأس علينا أن ننسى ديك هذا الرجل فعنده خروف، غدًا سوف يموت ومصيره إلينا. تعجب الرجل من حوار اعتبره كيديًا، وعند الصباح باع خروفه في الحال.
ولم تظفر القطتان بأمانيهما المبيتة!

قالت القطة المتفرسة لأختها: صبرًا جميلًا، هذا الرجل غدًا سوف يموت وبقايا طعام المعزين في فاتحته سوف تكون من نصيبنا! بهت الرجل من منطق القطط، وأخذ يحك رأسه ويفرك عينيه، وفر هاربًا مذعورًا من أمام عتبات داره  ذاهبًا إلى الحكيم، وأخبره بما سمع على ألسنة القطط.

رد عليه الشيخ العرفاني بكلام قاطع: عجيب أمرك، كان أمامك متسع من الوقت لتتصرف وتنجو بحياتك، الديك والخروف هما أضحيتان “فداء” عن عمرك! فرصتان ضيعتهما. فقال له: والآن يا مولانا ما العمل؟! تمتم الشيخ وهو يشير بيديه نحو الشفق الأحمر، قائلًا له: الآن فاتتك النجاة، بعد انحدار الشمس نحو المغيب ستلفظ زفرتك الأخيرة. فرد عليه: لا لا أريد الموت، أريد أن أعيش وأستمتع بالدنيا. حياتك أصبحت آفلة، نفذ القضاء. مات الرجل عند باب داره، وضعت الفاتحة، وبقايا طعام المعزين صار وليمة للقطط الجوعى!

يحيلنا هذا الحوار الخيالي بحكايا “كليلة ودمنة” لابن المقفع، قصص تدور على ألسنة الحيوانات، مليئة بالعبر والدروس، وسرد قصة القطط التي حولتها من اللهجة المحكية إلى نص مكثف ومختزل، سأضع فقط تعقيب والدتي حرفيًا: “لا تتأسف وتقول هذه راحت من عندي هالحاجة، أو ضاعت مني الحاجة الفلانية، ما تدري يمكن أفدى عن هالإنسان، أفدى لعمرك، عبر في الحياة ما حد يدركها، والگليل اللي يعتبر”.

أما الحكاية الثانية فهي تعزف على أوتار الأولى لكن النوايا المضمرة طوق نجاة: يحكى أن امرأة تدعى “طيبة” قالت لعمتها أم زوجها بأنها ستتأخر في العين بسبب غسيل الثياب، فالكمية كثيرة والنهار قصير، وأوصتها بعدم انتظارها عند موعد الغداء، فحين تنتهي من مشوار الغسيل سوف تتغدى على راحتها، حتى لو بقي لها قليل من الطعام، تناولت الأسرة وجبة الغداء في وقتها المعتاد وتركوا لطيبة بعضًا من الأرز والإيدام، وبعدما انتهت من زحمة الغسيل وأثناء رجوعها من العين مرت على ثلاثة رجال جالسين عند ناصية جدار بيت مقابل لمنزلها، وبمجرد أن ابتعدت عنهم قليلًا، أخذوا يتهامسون فيما بينهم، قال أحدهم: هذه المرأة التي مرت من أمامنا والتي تبوء بنقل الثياب أظن أن هذا آخر مشوار لها في الدنيا، سوف تنتهي حياتها في غضون ساعات أو غدًا ولن تمر ثلاثة أيام إلا وسوف توضع فاتحتها عما قريب، رد عليه صاحبه مستشيطًا: اتقي الله يا رجل هذه امرأة مؤمنة صاحبة أسرة ولديها أطفال ومسؤولية بيت لا تدعو عليها بالسوء، قال ثالثهم: حرام عليك أن تتفوه بهذا الكلام، من أنبأك بذلك، أنت لا تملك مفاتيح الغيب، رد عليهما برباطة جأش: يا أخوان لقد حلمت البارحة بموتها ورأيت الناس يشيعون فلانة زوجة فلان إلى مثواها الأخير، وحلمي ليس حلمًا عابرًا، الله أنعم علي بحلم الرؤيا، وكم أبلغتكم من قبل عن رؤياي في المنام ويحدث ما أحلم به فأنا لا أكذب ولا أدعوا عليها ولا أتمنى الموت لأحد! لكن لدي إحساس بدنو أجلها والله أعلم.

وحين وصلت المرأة إلى بيتها ارتقت إلى سطح المنزل لنشر الملابس الرطبة، وبينما هي كذلك سمعت جدالًا عند الباب بين عمتها وسائل يطلب طعامًا، فما كان من العمة إلا أن أغلقت الباب في وجه السائل قائلة له:
لا يوجد عندنا شيء لكي نعطيك، فهبت “طيبة” مسرعة إلى المطبخ حاملة غداءها وسلمته للفقير وعلى الفور جلس عند عتبة الباب وأخذ يلتهم الطعام، ورد عليها: دفع الله عنك كل نائبة من نوائب الزمان، رحم الله والديك، أشبعت بطني، كنت أتضور جوعًا، مشرفًا على الموت، أطال الله في عمرك، ورحم الله والديك” ثم انصرف لحال سبيله وهو يردد كلمات الامتنان، وفي “حوش” البيت انصب عتب العمة تجاه طيبة، موضحة لها أنهم لا يأكلون شيئًا بين الوجبات، طعامهم من الوجبة إلى الوجبة، ثم أمسكت كتفيها وخاطبتها بحنية: يا ابنتي تراني مشفقة عليك، أنت مجهدة طوال اليوم، وتحتاجين إلى زاد يقويك ويعينك لإتمام بقية أعباء المنزل، كيف تسلمين أكلك لعابر السبيل وأنت أولى به!

ردت طيبة بطمأنينة نفس وقناعة تامة، يا عمة ما أحب أن أرد سائلًا واقفًا على بابنا، وهذا أكلي وأنا حرة فيه، أعطيته لإنسان فقير محتاج للأكل وربما أنقذته من الهلاك، يكفي أنه رفع الصحن ودعا لنا بالخيرات. بعد يومين دار الجدل بين الرجال الثلاثة، واحتدم بشد وجذب، وارتفعت نبرة الرجلين ضد زميلهما، مفندين نبؤته الخائبة، وأنها مجرد أضغاث أحلام، فقال لهما: لا أستبعد أن هذه المرأة فعلت خيرًا قبل دنو منيتها، ربما تصدقت بحاجة ما، والله أمد في عمرها!

أستأنس ارتحالًا بين المحتوى والمضمون وتحية تقدير وإعجاب بحبكة الحكايات الشعبية المتناقلة على ألسنة الأولين، المنسوجة من تعب وشقى ووعي بأهمية التكاتف والتعاضد بين أفراد المجتمع، بنظرة نبل وصفاء نية نحو مساعدة الفقراء والمساكين، على الرغم من بساطتها إلا أنها ذات أهداف سامية وقيمة إنسانية.

تخبرني والدتي عن الحكاية الثالثة وهي ليست بـ”خرافة” من تأليف أحد إنما من ضمير حي نابض بالمعروف: امرأة تدعى “خيرية”، خرجت من بيتها متوجهة للسوق لشراء بعض لوازم الطبخ، وأوقفها في الطريق سائل يطلب مالًا، فسلمته نصف ما لديها من نقود، واشترت جزءًا طفيفًا من متطالباتها الرئيسية، وعادت للبيت وانهمكت في إعداد وجبة الغداء وبينما هي كذلك، هوى دولاب المطبخ عليها فانحشرت بين الأرض وثقل كتلة الخشب على كامل جسدها، لم تقو حتى على الصراخ، لكن أمها كانت تنوي الخروج من البيت فسمعت صوت ارتطام الدولاب، فأتت مسرعة تفتش أين وقع الصوت، تدخل من غرفة وتخرج من غرفة، ثم دخلت المطبخ ورأت شعر ابنتها يبرز من بين كتلة الدولاب المرتمي عليها وزجاجات الأرفف متشضية على طول الأرضية، صرخت من هول المشهد و”خيرية” مخنوقة لا تسطيع حتى الكلام بالكاد تتنفس، جاهدت الأم لسحب يد ابنتها، وصارت تدفع بكامل قوتها، وبعد عناء وقوة بأس أخرجتها من دوامة الهلاك، لم تصب “خيرية” بأذى سوى خدوش طفيفية. كيف أن الأم الكبيرة في السن وقوتها المحدودة، استطاعت أن تخرج بنتها من هذا المشهد الفظيع، لقد تولدت لديها طاقة تفوق طاقة ابنة العشرين.

وهنا تعقب والدتي بأهمية ودور الصدقة في حياة الإنسان. وهذه ليس حكاية من وحي الخيال، إنما حدثت لإحدى صديقات والدتي وطلبت مني عدم ذكر اسمها ولا العائلة واستجبت لذلك، وضعت اسم “خيرية” من أجل نسق السرد، وللتدليل على نفسيتها الخيرة ونيتها الحسنة، والمرأة لم تزل حية ترزق، أطال الله في عمرها وأمدها بصحة وعافية.

واسترسلت والدتي بسرد القصة الرابعة بين أن تكون وقعت بالفعل أو من نسج الرواة: خباز للتو مستفتح في دكانه، جاءه فقير، بأسباله البالية يهتز من شدة الهزال: “حجي أنا ميت من الجوع لا أملك مالًا، أعطني لو خبزة واحدة لأسد بها جوعي”. رد عليه الخباز بعنف، وطرده شر طرده، وبعد أن انتهت كمية العجين ذهب لبيته ليحضر أخرى، وبينما هو في طريقه رأى الفقير مرتميًا عند “ساب الماء” يقطف الحشيش ويأكله بنهم، بهت الخباز من المنظر كيف تأكل هذا يا رجل، تعال سوف أعطيك ما تريد، رفض المسكين الدعوة، قائلًا له: أما يكفي أنك أهنتني قبل قليل بكلام قاس، ترجّاه أن يأتي معه لكن السائل ذهب لحال سبيله، بينما الخباز ذاهب لبيته قابلته في الطرق زوجته وهي مذعورة وتصرخ وتقول له كنت قادمة إليك، تعال وشاهد ماذا أصاب البهائم، ركض مسرعًا، رأى بأم عينيه تساقط أغنامه الواحدة تلو الأخرى، قطيع كامل أصبح صرعى في حظيرة بيته!

تنبهني أمي وبحرص شديد ونتيجة خبرة السنين “إذا صدق السائل هلك المسؤول، لا ترد سائلًا يمكن هالسائل منضك، أعطيه حتى لو أقل القليل، وماميش على الصدقة، ترى الصدقة تدفع البلاء، وبالأخص صدقة السر، وإذا رزقت الفقير ما يروح من عند الله شيء”.

قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) [البقرة ٢٧١]. وحدثنا نبي الأمة (ص): “الصدقة تمنع سبعين نوعًا من أنواع البلاء”. وعن الإمام الباقر (ع): “البر والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان سبعين ميتة سوء”.

عقليًا وعاطفيًا وروحيًا وجسديًا، يتسلل اليقين كعدوة فطرية ويرتسم أثرًا
على سلوك المؤمنين. هناك اعتقاد راسخ متوارث جيلًا بعد جيل؛ أن تداري الفعل بعيدًا عن الأعين، هو حرز لك عبر المسير.

ما أجمل مد يد العون عند الأولين برغم ضيق العيش وحياة الكفاف، كانوا يتصدقون بحفنة جريش أو “فردة” تمر. أي راحة بال عندما غطى الليل جفون المتصدقين.



error: المحتوي محمي